كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة، فيهبط على تلك الذرى المباركات من قُعَيقِعان (١) وأبي قبيس، فينساب مع نسيم السحَر رخياً ناعشاً، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت «محطة» بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعالمين، حتى يمسح ستور الكعبة فيتنزّل على مَن في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين.
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوفٌ في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها وتبصرها بقلوبها، تقوم وراء الجبال الشمّ والبحار، في المدن والقرى والصحاري والسهول والأودية والقمم، في القصور والأكواخ والمغائر والسجون، في القفار المشتعلة حراً والبطاح المغطاة بالثلج ... تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.