للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لتحقيقها. وطالما حلم في نومه وفي يقظته أنه قد بلغ أمنيته فنعم بها ومرح في جناتها، ولكن الحلم يتصرّم وتعود الحقيقة الواقعة بوجهها الكالح القبيح، فيرى أنه لم يصل إلى شيء.

ولّى وجهه شطر الصحارى. ولكنه لم ينظر إليها، وإنما جاز به خياله فيافيها المهلكة وقفارها الواسعة إلى تلك البلاد التي يسمع عنها، ويتسقط أحاديثها، ويحمل لها في نفسه أجمل صورة تنفرج عنها مخيّلة شاعر ملهَم أو مصور فنان (١)؛ إلى البلاد التي يعرش فيها الياسمين وينمو الآس ويُزهر التفاح والسفرجل، وتسيل الينابيع متحدّرة من أعالي الجبال الشجراء ... فوقف يحلم بالوصول إليها ويتأمل صورتها التي صنعها خياله، وأقامها أمام عينيه خاشعاً خشوع العابد في محرابه، مَشوقاً شوق المحب المتيّم إلى صاحبته، مستغرقاً استغراق الصوفي في مراقبته والحالم في أحلامه، لا يحس مما حوله شيئاً!

وظل واقفاً شاخصاً إلى الأفق غارقاً في تأملاته، حتى لاح على الأفق من ناحية المشرق سواد خفيف، لم يلبث أن اشتد حتى شمل الصحارى النائية، ثم امتد حتى عم القفر كله، ثم تسلق السفوح حتى غمر القمم الواطية، ثم وصل إلى الذرى العالية فلفها هي والقرية في ثوبه القاتم وأحال الكون كله كتلة من الظلام ... عند ذلك انتبه كليب وأفاق من ذهلته، فذهب إلى منزله خائباً يجر


(١) ما في استعمال هذه الكلمة بأس، ولو كره المتحذلقون.

<<  <   >  >>