للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن يجد إلى العودة من سبيل! لأن بينه وبين القرية هذه الجبال التي لا آخر لها، وهذه الصحراء وهذه الأودية، فإذا قطعها واستطاع أن يعرف طريقه بين آلاف التلال المتشابهة وآلاف الصخور المتشاكلة لم يعرف طريق النجاة من سخرية قومه، وهزء صبيانه. وهو ما لا يطيقه أبداً ولا يصبر عليه، ويرى الموت أخف منه حملاً وأحلى مذاقاً.

وراح يذكر تلاميذه الصغار وطاعتهم إياه وحبهم له، ويذكر بغضاءهم وعصيانهم، ويذكر براءتهم وسذاجتهم، وخبثهم وشيطنتهم، ويذكر لينهم ويذكر قسوتهم ... فإذا هو يشعر بالحب لهم، ويغمره هذا الحب ويكون لقلبه برداً وسلاماً، ولمعدته رياً وشبعاً، ولروحه حياة. وينظر بعين الحب إلى قريته، ويعرضها كلها بطرقها وبيوتها وبساتينها وهذه المعابر التي سلكها مرات لا يحصيها عد، ويرى داره ويبصر كل حجر فيها وكل زاوية منها ... ثم ينظر إلى هذه الصحراء المترامية حوله، فإذا بها قد ابتلعت هذا الحب وجففته! وحياة الحب قصيرة المدى. وإذا به يحس بالألم، ويشم من حوله رائحة الموت، ويرى نفسه نبتة اجتُثت من الأرض وقُطعت جذورها، ثم ألقيت على هذه الرمال التي يُشوى عليها اللحم (١) لتجف وتعود حطبة يابسة بعد إذ هي غصن مورق فَيْنان،


(١) لا على المجاز، بل الحقيقة التي رأيناها في بوادي الحجاز رأي العين في رحلتنا التي كشفنا فيها طريقاً للسيارات من دمشق إلى مكة سنة ١٩٣٥م، وكانت سياراتنا أول سيارات سلكت هذه البادية من يوم خلقها الله.

<<  <   >  >>