للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأفاقت مذعورة وقد طار النوم من آماقها، فلم تُطِق البقاء وابنُها على عتبة الموت. قامت تحمل آلامها وأوجاعها وأثقال هذا القرن الكامل الذي يجثم على عاتقها ... هذه السنين المئة ... وتوجهت تلقاء الحرم.

وكانت تفكر في ابنها: ماذا عليها لو أنها أخذته من بين مخالب الموت، ثم عاشت معه في ركن منعزل من أركان هذا الكون الواسع؟ أيؤذي عبدَ الملك - وقد تم له الأمر وأطاعه الناس كلهم - أن تعيش عجوز بجانب ابنها؟ ألا يجد لذته إلا في ألمي؟ وهمت العجوز باستنزال اللعنات على عبد الملك، ثم رجعت إلى نفسها تفكر في عبد الله فإذا هو لا يقر ولا يهدأ، وإذا هو صاعقة حيثما نزلت خرجت وقلبت الأرض عاليها سافلها، فلا يقر لهذه الأمة قرار.

وكانت قد بلغت الحرم، فسمعت صوت المؤذن يردد التكبير فيعود الصدى في هذه الأوعار بمثل تكبيره، فأصغت فإذا ما حسبته صدى ليس إلا أذان أهل الشام، فآلمها هذا الانقسام وجعلت تتكلم همساً كأنما تخاطب نفسها: يا لهؤلاء الذي نسوا معاني «الله أكبر» وأضاعوا جوهرها!

* * *

وفي تلك اللحظة تقدم هذا الشيخ الذي كان أمير المؤمنين ووارث كسرى وقيصر ليصلي آخر صلاة له في ظل الكعبة، فسمعته العجوز (ولم يكن بينها وبينه إلا جدار قصير) فنازعتها نفسها إليه واشتاقت إلى عناقه!

<<  <   >  >>