للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فاتبعته، فكان كما ظننت. فنزل إلى دار مسفلة زريّة الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة.

قالت: لبيك أبا غياث.

قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقاً، فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً. فقال: كم؟ قلت: عُشْره. قال: لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فإيش نعمل؟ لا بد لي من رده.

فقالت له: نُقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم». يا أبا غياث إن الله أكرم من أن يعاقب رجلاً يحيي هذه الأنفس. إنك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك. إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة.

قال الطبري: ونظرت في وجه الشيخ، فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن، فسال دمعه على شيبته. ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه، ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة. لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير ... ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة، فما كان ليضيع ذلك كله في لذة يوم، وذكر أنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله، فما كان ليلقاه خائناً أمانته. أمّا عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم.

<<  <   >  >>