وليس يجوز أن تعود هذه الكنايات كلها على غير شيء في الحقيقة. ومثل هذا رجل رأى شخصاً من بعيد، فشبهه بإنسان يعرفه فقال هذا فلان، فلما قرب منه تبينه، فهذا مثله وإن كان ذلك أخفى، فإذا قد ثبت أن الاسم لا يسبق المسمى، فقد بطل احتجاجكم بسبق المصدر الفعل لأنه اسمه، وأنه واجب من ذلك أن يكون قبله سابقاً له.
الجواب. يقال لمن احتج بهذا وعارض به: وليس أيضاً ما قلتموه مسلماً لكم من أن الاسم لا يسبق المسمى ولا يتأخر عنه. فقد علمتم أنكم مخالفون في ذلك. وليس غرضنا إثبات حقيقة تقدم الاسم والمسمى، وإنما نحن في مجاري الخطاب وكلام العرب، ولا خلاف بيننا أن في كلام العرب وأوضاع النحويين الاسم قبل الفعل حسب ما تقدم اتفاقنا عليه، فنحن ندع ما فيه الخلاف من ذلك ونرجع إلى المتفق عليه في مجاري الإعراب وأوضاع النحو لأنه غرضنا الذي نتكلم عليه ونجادل عنه. فقد صح أن الاسم قبل الفعل، والمصدر اسم فقد صح أنه قبل الفعل وبالله التوفيق.
دليل آخر للبصريين. قالوا: من الدليل أيضاً على أن المصدر قبل الفعل وأن الفعل منه، أن المصدر في اللغة هو المكان الذي يصدر عنه، كقولنا هذا مصدر الإبل للمكان الذي تصدر عنه، فعلى ما توجبه حقيقة اللغة هو الشيء الذي يصدر عنه الفعل. ولو كان هو صدر عن الفعل سُمي صادراً لا مصدراً وهذا بين واضح.
دليل آخر للبصريين، كان شيخنا أبو إسحق الزجاج رحمه الله، يستدل به، قال: لو كان المصدر بعد الفعل، وكان مأخوذاً من الفعل، لوجب أن يكون لكل مصدر فعل قد أخذ منه، لا محيص عن ذلك ولا مهرب منه. فلما رأينا في كلام العرب مصادر كثيرة لا أفعال لها البتة مثل العبودية والرجولية والبنوة والأمومة