للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسُبحان مَن نوَّع بين عباده: منهم مَن يستجم بالمعرفة قراءةً، ومنهم: بالاسترخاء سياحةً، ومنهم بالصيد، ومنهم بالملاهي المباحة، ومنهم بالملاهي المحرمة، والناس أجناس ... وإنَّ الاستجمام بالمعرفة كتابةً أعظم منها قراءة.

وللأُوَل أكتب لي ولهم ما تجمع لديَّ في قصاصات ــ دُوْنَ قَصْدٍ مِنِّي لِلْبَحْثِ فِيْهَا ــ (١):


(١) أصلها: مقالة لطيفة رائعة، بعنوان: «السمبوسة في الأدب العربي» للأستاذ: إبراهيم باجس، نشرها في ... «جريدة الرياض» (عدد ١٠٧٨٤) يوم الجمعة (٤/ ٩/ ١٤١٨ هـ)، وفيها نقلان، الأول: من معجم الفارسية، والثاني: قصيدة إسحاق من «مروج الذهب» للمسعودي.
استلطفتُ ورودها عند المسعودي في ذلك الزمن، فحفظت المقالة عندي، ثم زدت عليها يسيراً، ونشرتها في مجمع تعليمي ـ مسنداً الفائدة لصاحبها ـ، ثم بدأت أضيفُ إليها ما أقف عليه ــ دون قصد للبحث ـ من معلومات تراثية عن هذه الأكلة المعَمَّرَة.
وهكذا، بعض المؤلفات، والبحوث، والمقالات لا يُقدِّر المرءُ كتابتَها ابتداءً، وإنما تأتي مفاجئةً أحياناً بعد مرور عدد من فوائدها، فكأن بعضَها تفرض نفسها فرضاً على الكاتب ـ وهذه المقالة عن ... السمبوسة من هذا الباب ـ.
وفي هذه النشرة الرابعة، دعني أحدثك ـ مادمتُ معك الآن في حديث سمَر ـ: أنني منشرح الصدر لإخراج هذه الأحاديث أكثر من ذي قبل، وإن أصبحَتْ تأليفاً مِن بَعد البحث، القادمِ بعدَ المقال؛ لأنني استعرضت بعد نشرتي الثالثة عدداً من المقالات الصحفية والتقنية التي تتحدث عن هذه الأكلة، فوجدتها كلاماً ليس فيه خيط من خيوط المعرفة الصحيحة الموثَّقة!! وكأن قصد أصحابها لفت النظر إلى الصحيفة فقط ... ، نعم، كلها كذب وافتعال ونسبة كاذبة للتراث، ولم يَعزُ مقالٌ مما وقفت عليه إلى مصدر واحد، فتجد المقالات مليئة بالكلمات الصحافية التي يرددها مدعو الثقافة في البلاد العربية، مثل: إن هذه الأكلة ترجع فيما قيل إلى الهند، وقد دخلت العالم العربي بعد الاستعمار البريطاني ... ويحكى في التاريخ أنها جلبت من إندونيسيا بواسطة التجار الحضارم، ثم وصلت الحرمين ... وهي كما في بعض الأساطير تنسب لمدينة اسمها سمبوسة في العراق، وقيل: سُم بوسَة، والأكلة مما تُقدم لامبراطور الصين ... !!
هذه الأساليب الدالة على خواء المعلومات من جماعة:
(أثبتت الدراسات الغربية وأثبتت المراكز البحثية)!!
فإن كانت المعلومة شرقية، ربطوها بامبراطور الصين، أو حاكم الهند، ولابد من الإشارة إلى التجار، أو الحجاج، هذه أساليب الفارغين من بعض الكتاب أصحاب «أثبتت الدراسات»
بمثل هذه الأكاذيب من مدعي الثقافة تنتشر كثير من المعلومات بين الناس حتى تصبح من المسلَّمات ...
هذا الموضوع أنموذج، لما ينتشر عند الناس، من كلام مرسل لم يوثَّق بمصدر تراثي ... وأنت ترى أن هذه الأكلة مذكورة في كتب: الفقه، والحُسْبة، والتاريخ، واللغة، والأدب، والطبخ ... من كتب تراث المسلمين الأصيل ...
فلعل من فوائد كتابة ما كتبتُ أن تكون أنموذجاً لأهمية الرجوع إلى المصادر في أي موضوع كان، وعدم الالتفات إلى خرافات الكتبة المعاصرين الذين يكتبون معلوماتهم من ظنونهم ويعزونها إلى التاريخ دون مصدر ... نعم ما المانع أن يُعزى إلى مصدر أو مصدرين أصليين للمعلومات الواردة في المقال ولو كان المقال في صحيفة، مادم أن الموضوع تراثيٌّ ...
وتزداد الأهمية في زماننا هذا؛ لأن أبناءنا وبناتنا بل ورجالنا ونساءنا إذا أرادوا الحديث أو الكتابة عن موضوع ما، كالشاي، أو القهوة مثلاً، ضغطوا كلمة واحدة في (قوقل) ولن يجدوا في الغالب إلا كلام عَوامٍّ قُحِّ، مدون في صحيفة ورقية أو تقنية أو منتديات، وقد تُنوقِل كثيراً، كلٌّ ينقل من الآخر، حتى يظن القارئ أنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليه متواتر بين الناس، وأنها الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها!! مع أنه لم يَعزُ أحدٌ منهم إلى كتاب علمي فضلاً عن عدة مصادر بالمجلد والصفحة!!
ألا فلنُعلِّم أولادَنا أنَّ ما تجدونه في «قوقل» مكتوباً ومنطوقاً لا يُعتمد عليه مالم تقف عليه في عدة مصادر أصلية، وإلا زادت الخرافات والأكاذيب، ثم نتَّهم تاريخنا القديم والجديد لأنه روَّج هذه الأكاذيب!!
وتزداد الأهمية درجات بعد درجات إذا علمنا أن أولادنا ـ يا للأسف الشديد ـ مفتونون بالكتب الغربية المترجمة، لا يلتفتون إلى كتب التراث الغنية المميزة في كل الفنون ـ والسمبوسة التي بين يديك خير مثال ـ، ساعدهم في هذا البُعد أناس يُرى أنهم مثقفون قدوة، يتبعون ما يريد منهم الشباب، ويرون أن الثقافة الجديدة الأجنبية هي التي تلفت الأنظار، وتُلبس متحدثها التحضر والحداثة الثقافية ...
وأحيلك إلى ما كتبته في مقدمة كتابي «منهج الدميري في كتابه حياة الحيوان»، أزعم أن فيه عبرةً ونذارة.
وما دمتُ معك في مجلس سمَر، فَلِمَ تعاتبني على هذا الاستطراد ـ وليس باستطراد في الحقيقة ـ بل هو بيان أهمية الكتابة التراثية في غالب شؤوننا، مع إتباعها بالكتب المعاصرة؛ لنفخر به، ونرفع به رؤوسنا.
معارفنا العامة، وثقافتنا إذا وُثِّقت من المصادر العربية وحُرِّرت، كان هذا علامة على التوثيق والتحرير في شؤوننا كلها: في ديننا، ودنيانا، وعلى عنايتنا بالضبط والإتقان ... والله المستعان.

<<  <   >  >>