أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجر فقال له ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال له: إني لما طرحت اصبعي في أذن القدح تفكرت قول الله تعالى (إذا الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسبحون، في الحميم ثم في النار يسجرون)[غافر: ٧١، ٧٢]
فتفكرت في حالي وأنا الملقى أن طرح الغل في عنقي يوم القيامة فما زال في ذلك حتى أصبح.
قال ابن عطية: وهذه نهاية الخوف وخير الأمور أوسطها وليس علماء الأئمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج وقراءة علم كتاب الله عز وجل ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تفهم وجاء نفعه أفضل من هذا لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا، وحدثني أبي رحمه الله عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائنا في المسجد الأقدم بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء مسجي بكسائه حتى أصبح وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل وصلى مع الناس فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء فلما فرغت الصلاة خرج فاتبعته لأعظه فما دنوت منه سمعته ينشد:
مسجن الذهن غائب حاضر: منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في الغيوب منبسط: كذلك من كان عارفا شاكر
يبيت في ليله أخا فكرة: فهو مدى الدهر قائم ساهر
قال: فعلمت أنه ممن يعبد الله بالفكرة فانصرفت عنه.
(فاستعن بذكر الموت والفكرة إلى آخره):
قيل: لأن ذكر الموت ما بعده مبغض في الحياة مزهد في الدنيا وإذا حصل الزهد حصل الخير كله أو جله فإن حب الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم "رأس كل خطيئة ومن طال أمله ساء عمله ونسي أجله" ولا معين على الزهد مثل قصر الأمل.
وفي الحديث "إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك ومن غناك لفقرك ومن شبابك لهرمك" الحديث.
[باب في الفطرة وختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك]
(هنا أفرد الختان بالذكر دلالة على تأكده فإنه أكد خصال الفطرة وإلا فهو منها. ومن الفطرة خمس قص الشارب وهو الإطار وهو طرف الشعر المستدير على الشفه