للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وركب هارون الرشيد يوما على حماره، وعاد سعيد بن سلم، فدعا بمحمد الراوية المعروف بالسدي، وكان أملح الناس إنشادا، فقال له الرشيد: أنشدني قصيدة الجرجاني التي يقول فيها:

لا تبعد الأيام إذ ورق الصبا خضر وإذ غصن الشباب نضير

فأنشده، فقال: الشعر اليوم في ربيعة. فأنشده، فقال سعيد: استنشده يا أمير المؤمنين قصيدة أشجع السلمي. قال: الشعر في ربيعة سائر اليوم، فلم يزل سعيد يستنشده حتى أنشده محمد البيدق:

وعلى عدوك يا ابن عم محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلام

فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام

فقال الرشيد: لو خرس بعد هذا لكان أشعر الناس.

أخذ قوله هذا من قول الأخطل، وقد توعده الجحاف بن حكيم، فحم، فقال له عبد الملك: خفف عليك، فأنا أجيرك منه. قال: يا أمير المؤمنين! هبك أجرتني منه في اليقظة، فمن يجيرني منه في النوم؟

قال الجاحظ: قال سعيد بن سلم: كنت واليا بأرمينية، فعبر أبو دهمان العلائي على بابي أياماً، فلما وصل مثل قدامى بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواماً لو عملوا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عن عيش دقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة بطيء العطفة إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفك عني، ولأن أكون مقلا مقرباً أحب إلى من أن أكون مكثراً معبداً، والله ما نمتثل عملا إلا ونضبطه ولا مالا إلا ونحن أكبر منه. إن هذا الأمر الذي صار في يديك قد كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثاً، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فتحبب إلى عباد الله بحس البشر وابن الجحاف فان خلفه أمناؤه عبيدة ورقباؤه على من أعوج سبيله.

<<  <   >  >>