وَتَأَمَّلْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَدْحِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اسْتِغْفَارِهِمْ تَوَسُّلَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، فَسَعَةُ عِلْمِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِذُنُوبِهِمْ وَأَسْبَابِهَا وَضَعْفِهِمْ عَنِ الْعِصْمَةِ، وَاسْتِيلَاءِ عَدُوِّهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَوَاهُمْ وَطِبَاعِهِمْ وَمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَعِلْمَهُ بِهِمْ إِذْ أَنْشَأَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ هُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَعِلْمَهُ السَّابِقَ بِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْصُوهُ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ.
وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلَكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحِمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَبِيلَهُ، وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، فَتَابُوا مِمَّا يَكْرَهُ، وَاتَّبَعُوا السَّبِيلَ الَّتِي يُحِبُّهَا، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَأَنْ يُدْخِلَهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ بِهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَإِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِهَا بِأَسْبَابٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا: دُعَاءُ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي مِنْهَا أَنْ وَفَّقَهُمْ لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ يَدْعُونَ لَهُمْ بِهَا.
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا عَقِيبَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سُورَةُ غَافِرٍ: ٨] .
أَيْ مَصْدَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ وَغَايَتُهُ صَادِرٌ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَكَمَالِ عِلْمِكَ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ كَمَالُ الْقُدْرَةِ، وَالْحِكْمَةَ كَمَالُ الْعِلْمِ، وَبِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ يَقْضِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَاءَ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، فَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَصْدَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُقُوبَاتِ السَّيِّئَاتِ تَتَنَوَّعُ إِلَى عُقُوبَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، وَعُقُوبَاتٍ قَدَرِيَّةٍ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْقَلْبِ، وَإِمَّا فِي الْبَدَنِ، وَإِمَّا فِيهِمَا، وَعُقُوبَاتٍ فِي دَارِ الْبَرْزَخِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعُقُوبَاتٍ يَوْمَ عَوْدِ الْأَجْسَادِ، فَالذَّنْبُ لَا يَخْلُو مِنْ عُقُوبَةٍ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ لِجَهْلِ الْعَبْدِ لَا يَشْعُرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ وَالْمُخَدَّرِ وَالنَّائِمِ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ، فَتَرَتُّبُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الذُّنُوبِ كَتَرَتُّبِ الْإِحْرَاقِ عَلَى النَّارِ، وَالْكَسْرِ عَلَى الِانْكِسَارِ، وَالْغَرَقِ عَلَى الْمَاءِ، وَفَسَادِ الْبَدَنِ عَلَى السُّمُومِ، وَالْأَمْرَاضِ عَلَى الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لَهَا، وَقَدْ تُقَارِنُ الْمَضَرَّةُ الذَّنْبَ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ، إِمَّا يَسِيرًا وَإِمَّا مُدَّةً، كَمَا يَتَأَخَّرُ الْمَرَضُ عَنْ سَبَبِهِ أَنْ يُقَارِنَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ لِلْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَلَا يَرَى أَثَرَهُ عَقِبَهُ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَمَا تَعْمَلُ السُّمُومُ وَالْأَشْيَاءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute