للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَيَجْتَهِدُ فِي حِرْمَانِهَا أَعْلَى حُظُوظِهَا وَأَشْرَفَهَا وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَسْعَى فِي حَظِّهَا، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْقِيرِهَا وَتَصْغِيرِهَا وَتَدْنِيسِهَا، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُعْلِيهَا وَيَرْفَعُهَا وَيُكْبِرُهَا.

وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكْرِمٌ، وَمُذِلٌّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُعِزٌّ، وَمُصَغِّرٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكَبِّرٌ، وَمُضِيعٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرَاعٍ لِحِفْظِهَا، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يَكُونَ مَعَ عَدُوِّهِ عَلَى نَفْسِهِ، يَبْلُغُ مِنْهَا بِفِعْلِهِ مَا لَا يَبْلُغُهُ عَدُوُّهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ]

فَصْلٌ

الْمَعْصِيَةُ تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ

وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ، وَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ أَهْمَلَهَا وَأَفْسَدَهَا وَأَهْلَكَهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْسَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ؟ وَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَذْكُرُ؟ وَمَا مَعْنَى نِسْيَانِهِ نَفْسَهُ؟

قِيلَ: نَعَمْ يَنْسَى نَفْسَهُ أَعْظَمَ نِسْيَانٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سُورَةُ الْحَشْرِ: ١٩] .

فَلَمَّا نَسُوا رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُمْ وَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: ٦٧] .

فَعَاقَبَ سُبْحَانَهُ مَنْ نَسِيَهُ عُقُوبَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَنْسَاهُ نَفْسَهُ.

وَنِسْيَانُهُ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ: إِهْمَالُهُ، وَتَرْكُهُ، وَتَخَلِّيهِ عَنْهُ، وَإِضَاعَتُهُ، فَالْهَلَاكُ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ، وَأَمَّا إِنْسَاؤُهُ نَفْسَهُ، فَهُوَ: إِنْسَاؤُهُ لِحُظُوظِهَا الْعَالِيَةِ، وَأَسْبَابِ سَعَادَتِهَا وَفَلَاحِهَا، وَإِصْلَاحِهَا، وَمَا تَكْمُلُ بِهِ بِنَسْيِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَمِيعِهِ فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ عَلَى ذِكْرِهِ، وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ فَيَرْغَبُ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَمُرُّ بِبَالِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ وَيُؤْثِرَهُ.

وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَنَقْصَهَا وَآفَاتِهَا، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ إِزَالَتُهَا.

وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ أَمْرَاضَ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَآلَامَهَا، فَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مُدَاوَاتُهَا، وَلَا السَّعْيُ فِي إِزَالَةِ عِلَلِهَا وَأَمْرَاضِهَا الَّتِي تَئُولُ بِهَا إِلَى الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ، فَهُوَ مَرِيضٌ مُثْخَنٌ بِالْمَرَضِ، وَمَرَضُهُ

<<  <   >  >>