فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهُوَ يُعَذَّبُ بِهِ قَبْلَ حُصُولِهِ حَتَّى يَحْصُلَ، فَإِذَا حَصَلَ عُذِّبَ بِهِ حَالَ حُصُولِهِ بِالْخَوْفِ مِنْ سَلْبِهِ وَفَوَاتِهِ، وَالتَّنْغِيصِ وَالتَّنْكِيدِ عَلَيْهِ، وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ، فَإِذَا سُلِبَهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ عَذَابُهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ الدَّارِ.
وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ: فَعَذَابٌ يُقَارِنُهُ أَلَمُ الْفِرَاقِ الَّذِي لَا يَرْجُو عَوْدَةً وَأَلَمُ فَوَاتِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ، وَأَلَمُ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ، وَأَلَمُ الْحَسْرَةِ الَّتِي تَقْطَعُ الْأَكْبَادَ، فَالْهَمُّ وَالْغَمُّ وَالْحُزْنُ تَعْمَلُ فِي نُفُوسِهِمْ نَظِيرَ مَا يَعْمَلُ الْهَوَامُّ وَالدِّيدَانُ فِي أَبْدَانِهِمْ، بَلْ عَمَلُهَا فِي النُّفُوسِ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، حَتَّى يَرُدَّهَا اللَّهُ إِلَى أَجْسَادِهَا، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الْعَذَابُ إِلَى نَوْعٍ هُوَ أَدْهَى وَأَمَرُّ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ نَعِيمِ مَنْ يَرْقُصُ قَلْبُهُ طَرَبًا وَفَرَحًا وَأُنْسًا بِرَبِّهِ، وَاشْتِيَاقًا إِلَيْهِ، وَارْتِيَاحًا بِحُبِّهِ، وَطُمَأْنِينَةً بِذِكْرِهِ؟ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ فِي حَالِ نَزْعِهِ: وَاطَرَبَاهُ.
وَيَقُولُ الْآخَرُ: مَسَاكِينُ أَهْلُ الدُّنْيَا، خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا لَذِيذَ الْعَيْشِ فِيهَا، وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا.
وَيَقُولُ الْآخَرُ: لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ.
وَيَقُولُ الْآخَرُ: إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ.
فَيَا مَنْ بَاعَ حَظَّهُ الْغَالِي بِأَبْخَسِ الثَّمَنِ، وَغُبِنَ كُلَّ الْغَبْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ غُبِنَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ خِبْرَةٌ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ فَسَلِ الْمُقَوِّمِينَ، فَيَا عَجَبًا مِنْ بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللَّهُ مُشْتَرِيهَا وَثَمَنُهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَالسَّفِيرُ الَّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ عَقْدُ التَّبَايُعِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي هُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ بِعْتَهَا بِغَايَةِ الْهَوَانِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
إِذَا كَانَ هَذَا فِعْلُ عَبْدٍ بِنَفْسِهِ ... فَمَنْ ذَا لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يُكْرِمُ
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [سُورَةُ الْحَجِّ: ١٨] .
[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُعْمِي الْبَصِيرَةَ]
فَصْلٌ
الْمَعَاصِي تُعْمِي الْبَصِيرَةَ
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ، وَتَطْمِسُ نُورَهُ، وَتَسُدُّ طُرُقَ الْعِلْمِ، وَتَحْجُبُ مَوَادَّ الْهِدَايَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute