الْقُلُوبِ مِنَ اللَّهِ قُلُوبُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ، وَإِذَا بَعُدَ الْقَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ الْآفَاتُ، وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَمْ يَدَعْ أَذًى يُمْكِنُهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ، فَمَا الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُّوهُ وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى غَيِّهِ وَفَسَادِهِ، وَبَعُدَ مِنْهُ وَلِيُّهُ، وَمَنْ لَا سَعَادَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ وَلَا سُرُورَ إِلَّا بِقُرْبِهِ وَوِلَايَتِهِ؟
السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ وَاسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ، أَفْسَدَ الذِّهْنَ، وَأَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ، وَرُبَّمَا أَلْحَقَ صَاحِبَهُ بِالْمَجَانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَأَخْبَارُ الْعُشَّاقِ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، بَلْ بَعْضُهَا مَشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ، وَأَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِذَا عُدِمَ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلَحَ مِنْ حَالِهِ، وَهَلْ أَذْهَبَ عَقْلَ مَجْنُونِ لَيْلَى وَأَضْرَابِهِ إِلَّا ذَلِكَ؟ وَرُبَّمَا زَادَ جُنُونُهُ عَلَى جُنُونِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ:
قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
السَّابِعُ: أَنَّهُ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَوَاسَّ أَوْ بَعْضَهَا، إِمَّا إِفْسَادًا مَعْنَوِيًّا أَوْ صُورِيًّا، أَمَّا الْفَسَادُ الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَسَادِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا فَسَدَ فَسَدَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا مِنْهُ وَمِنْ مَعْشُوقِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» فَهُوَ يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ وَعُيُوبِهِ، فَلَا تَرَى الْعَيْنُ ذَلِكَ، وَيُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ذَلِكَ، وَالرَّغَبَاتُ تَسْتُرُ الْعُيُوبَ، فَالرَّاغِبُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، حَتَّى إِذْ زَالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أَبْصَرَ عُيُوبَهُ، فَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ غِشَاوَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، كَمَا قِيلَ:
هَوَيْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا
وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَالْخَارِجُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَلَا يَرَى عُيُوبَهُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا تَنْتَقِضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَوَاسِّ ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ يُمْرِضُ الْبَدَنَ وَيُنْهِكُهُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَلَفِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَخْبَارِ مَنْ قَتَلَهُمُ الْعِشْقُ.