وَفِي النَّسَائِيِّ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ: «وَأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ» وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا: «كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ، إِذَا سَمِعُوهُ مِنَ الرَّحْمَنِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَبْلَ ذَلِكَ» .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَأَعْظَمُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصِّلُ هَذِهِ اللَّذَّةَ هُوَ أَعْظَمُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهِيَ لَذَّةُ مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَذَّةُ مَحَبَّتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ جَنَّةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا الْعَالِي، وَنِسْبَةُ لَذَّاتِهَا الْفَانِيَةِ إِلَيْهِ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ وَالْبَدَنَ إِنَّمَا خُلِقَ لِذَلِكَ، فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَأَلَذُّ مَا فِي الْجَنَّةِ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ، فَمَحَبَّتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ قُرَّةُ الْعُيُونِ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ، وَبَهْجَةُ الْقُلُوبِ، وَنَعِيمُ الدُّنْيَا وَسُرُورُهَا، بَلْ لَذَّاتُ الدُّنْيَا الْقَاطِعَةُ عَنْ ذَلِكَ تَتَقَلَّبُ آلَامًا وَعَذَابًا، وَيَبْقَى صَاحِبُهَا فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ، فَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَكَانَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ تَمُرُّ بِهِ أَوْقَاتٌ فَيَقُولُ: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ: لَوْ يَعْلَمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ.
وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ، يَقُولُ فِي حَالِهِ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا الْعَاشِقُونَ ذَوُو الْهَوَى ... فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ
وَيَقُولُ غَيْرُهُ:
أُفٍّ لِلدُّنْيَا إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ ... صَاحِبُ الدُّنْيَا مُحِبًّا أَوْ حَبِيبًا
وَيَقُولُ آخَرُ:
وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي نَعِيمِهَا ... وَأَنْتَ وَحِيدٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ عَاشِقِ
وَيَقُولُ الْآخَرُ:
اسْكُنْ إِلَى سَكَنٍ تَلَذُّ بِحُبِّهِ ... ذَهَبَ الزَّمَانُ وَأَنْتَ مُنْفَرِدُ
وَيَقُولُ الْآخَرُ:
تَشَكَّى الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي ... تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي
فَكَانَتْ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا ... فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي
فَكَيْفَ بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ، وَلَيْسَ لِلْقَلْبِ لَذَّةٌ، وَلَا نَعِيمٌ، وَلَا فَلَاحٌ، وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِهَا، وَإِذَا فَقَدَهَا الْقَلْبُ كَانَ أَلَمُهُ أَعْظَمَ مِنْ أَلَمِ الْعَيْنِ إِذَا فَقَدَتْ نُورَهَا، وَالْأُذُنِ إِذَا فَقَدَتْ سَمْعَهَا، وَالْأَنْفِ إِذَا فَقَدَ شَمَّهُ، وَاللِّسَانِ إِذَا فَقَدَ نُطْقَهُ، بَلْ فَسَادُ الْقَلْبِ إِذَا خَلَا مِنْ مَحَبَّةِ فَاطِرِهِ