هذا كله إن أردنا الترجيح بين قولي السمعاني، لكن الأولى أن نحاول الجمع بين قوليه، فذلك خيرٌ من ضربهما ببعضهما، خاصةً وأنهما قولان صادران من إمام واحد، بل في كتاب واحد أيضًا.
والجمع يظهر من التدقيق في كلام السمعاني الذي اشترط فيه طُولَ الصحبة، والتنبُّهِ إلى أنه لم يشترط فيه انتفاءَ التدليس لقبول العنعنة أنه كان يريد أن يذكر حالةً من حالات الرواية بالعنعنة تكون محكومًا عليها بالاتّصال مطلقًا، حتى لو كان الراوي المُعَنْعِنُ مدلِّسًا. ولذلك ذكر شَرْطَ طول الصحبة، حيث إن من كان مختصًّا بشيخ ملازمًا له حُملت عنعنته عنه على الاتّصال، ولو كان من مشاهير المدلسين، كما هو مقرّر في هذا العلم (١) .
وبذلك يكون السمعاني قد بيّن سِعَةَ دائرة قبول الحديث المعنعن، ففي كلامه الذي كان يتحدّث فيه عن حُكم الحديث المعنعن بيّن أنه حديثٌ مُتّصل من عامّة الرواة، ولم يَسْتَثْنِ إلا المدلسين، فهم وحدَهم الذين لا تُحمل عنعنتهم على الاتصال. ثم عاد السمعاني في الموطن الآخر إلى بيان أن الحديث المعنعن قد يُقبل حتى من المدلِّس، وذلك فيما إذا كان المدلِّس يروي عمن أطال صحبته من شيوخه.
وقَصْدُهُ من ذلك إظهارُ ضَعْفِ حُجّة من شَبَّه الحديث المرسل بالحديث المعنعن بجامع الإرسال في الأول واحتماله في الثاني، فبيّن له بذلك أن من الأحاديث المعنعنة ما تُقبل من كل الرواة، ومنها ما
(١) انظر المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (١/ ٣٥٠، ٤٩٢) .