للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَفِي قَولِهِ تَعَالَى: {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} بَعْدَ ذِكْرِهِ المَسِيح وَهُوَ يَكْفِي في التَّعْرِيفِ فَائِدَتَانِ جَلِيلَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: بيان أن عيسى صلوات اللَّه عليه ليس له أبي ولا ينتسب إلا إلى أمه، فكرر اللَّه تعالى نسبته إلى أمه في القرآن كثيرًا لتستشعر النفوس ما يجب عليها من اعتقاد ذلك من تنزيه اللَّه سبحانه عن الولد وتنزيه مريم الطاهرة عما كذبته عليها اليهود لعنهم اللَّه، ولهذا المعنى ينبغي أن يكون {الْمَسِيحُ} في هذه الآية مبتدأ و {عِيسَى} بدل منه، أو عطف بيان و {ابْنُ مَرْيَمَ} هو الخبر للمبتدأ و {رَسُولُ اللَّهِ} صفة له و {وَكَلِمَتُهُ} عطف على الصفة، ويكون فائدة ذلك انحصار وصف عيسى عليه الصلاة والسلام في كونه ابن مريم فقط؛ لكونه رسول اللَّه وكلمته لما تقتضيه {إنَّمَا} من حصر المبتدأ في الخبر.

وجعل أبو البقاء {الْمَسِيحُ} مبتدأ وخبره {رَسُولُ اللَّهِ}، و {عِيسَى} إما بدل من المبتدأ أو عطف بيان له (١) كما ذكرنا وهو متجه أَيضًا، لكن الأول أقوى؛ للفائدة التي أشرنا إليها من الحصر وإبطال ما ادعته النصارى واليهود في حقه عليه السلام، ويتأيد ذلك بإثبات الألف في ابن مريم هنا في رسم المصحف إجماعًا وذلك يرجح كون "ابْن" خبرًا لا وصفًا، واللَّه أعلم.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن عادة الملوك والأشراف أنهم لا يذكرون حرائرهم في ملأ الناس ولا يصرحون بأسمائهن بل يكنون عنهن بالأهل والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء صرحوا باسمائهن ولم يصونوهن عن الابتذال، فلما قالت النصارى لعنهم اللَّه في حق اللَّه ما قالوا من جهة مريم صرح اللَّه تعالى باسمها في نحو ثلاثين موضعًا من القرآن ولم يسم في القرآن امرأة غيرها، بل كنى عن امرأة فرعون وامرأة نوح وامرأة لوط وأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يكن عن مريم تأكيدًا للأموة والعبودية التي هي صفة لها وإجراء للكلام على عادة الرؤساء في ذكر إمائها، وهذا ذكره السهيلي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو معنى حسن.


(١) "التبيان في إعراب القرآن" (١/ ٢٠٤).

<<  <   >  >>