هاب أهل الشّام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كلّ إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدُومَة الجندل، وافترقا عن غير شيء، فلمّا رجعوا خالفت الحرورية عليا، وقالوا: لا حكم إِلَّا لله.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رَزِين قال: لمَّا وقع الرضا بالتحكيم، ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء، فبعث لهم عبدَ الله بنَ عبّاس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي، فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر؛ لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إِلَّا لله.
ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان: عبدُ الله بن وهب الراسبي، وزيد بن حِصْن الطائي، وحُرْقُوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب. ذكر هذا كلّه في "الفتح"(١)، والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسأله الثّانية): في اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج:
قال في "الفتح": استدل به -أي بحديث أبي سعيد الآتي بعد حديث- لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، حيث قَرَنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتأولين بترجمة، وبذلك صَرّح القاضي أبو بكر بن العربي في "شرح التّرمذيّ"، فقال: الصّحيح أنهم كُفّار لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يَمْرُقون من الإسلام"، ولقوله:"لأَقتُلَنَّهم قتل عاد"، وفي لفظ "ثمود" وكل منهما إنّما هلك بالكفر، وبقوله:"هم شر الخلق"، ولا يوصف بذلك إِلَّا الكفار، ولقوله:"إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى"، ولحكمهم على كلّ من خالف مُعتَقَدَهم بالكفر، والتخليدِ في النّار، فكانوا هم أحقَّ بالاسم منهم.
وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشّيخ تقي الدين السبكي، فقال في "فتاويه": احتَجَّ من كَفَّر الخوارج، وغُلاة الروافض بتكفيرهم أعلامَ الصّحابة؛ لتضمنه تكذيب النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاجٌ صحيحٌ، قال واحتَجَّ
(١) "الفتح" ١٢/ ٣٥٤ - ٣٥٧ "كتاب استتابة المرتدين" رقم الحديث (٦٩٣٠ - ٦٩٣٢).