من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يَستَدْعِي تقدُّم علمهم بالشهادة المذكورة علمًا قطعيًّا، وفيه نظر؛ لأنا نعلم تزكية من كفَّروه علمًا قطعيا إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفَّرهم، ويؤيده حديث:"مَنْ قال لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما"، وفي لفظ مسلم:"مَنْ رَمَى مسلما بالكفر، أو قال: عدو الله إِلَّا حار عليه"، قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر، ممّن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يُحكَم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سَجَدَ للصنم ونحوه، ممّن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فَسَّروا الكفر بالجحود، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك، قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم، ولو لم يعتقدوا تزكية من كَفَّروه علمًا قطعيًّا، ولا يُنجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا، والعملُ بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا يُنجي الساجد للصنم ذلك.
وممن جَنَحَ إلى بعض هذا البحث الطّبريّ في "تهذيبه"، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الردُّ على قول من قال: لا يَخرُج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إِلَّا بقصد الخروج منه عالمًا فإنّه مبطل، لقوله في الحديث:"يقولون الحقّ، ويقرءون القرآن، ويَمرُقون من الإسلام، ولا يتعلّقون منه بشيء"، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلالَ دماء المسلمين وأموالهم إِلَّا بخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن المرادَ منه، ثمّ أخرج بسند صحيح عن ابن عبّاس، وَذُكِرَ عنده الخوارج، وما يَلْقَون عند قراءة القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه، ويَهْلِكون عند متشابهه.
ويؤيد القول المذكور الأمرُ بقتلهم مع ما تقدّم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يحل قتل امرئ مسلم إِلَّا بإحدى ثلاث"، وفيه:"التارك لدينه المفارقُ للجماعة".
قال القرطبي في "المفهم": يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- يعني الآتي بعد حديث، فإن ظاهر مقصوده أنهم خَرَجُوا من الإسلام، ولم يتعلّقوا منه بشيء، كما خرج السهم من الرَّمِيَّة؛ لسرعته، وقُوَّة راميه، بحيث لم يتعلّق من الرَّمِيَّة بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"سَبَقَ الفَرْثَ والدمَ".