أمّا زهده في الدنيا ومتاعها، فإنّ الله تعالى جعل ذلك له شعارًا من صغره. حدّثني من أثق به عن شيخه الذي علّمه القرآن المجيد قال: قال لي أبوه وهو صبي ــ يعني الشيخ ــ: أحبُّ إليك أن توصيه وتَعِده بأنك إذا لم تنقطع عن القراءة والتلقين أدفع إليك كلّ شهر أربعين درهمًا. قال: ودفع إليّ أربعين درهمًا، وقال: أعطه إيّاها، فإنه صغير وربّما يفرح بها فيزداد حرصه على الاشتغال بحفظ القرآن ودرسه، وقل له: لك في كلّ شهر مثلها. فامتنع من قبولها وقال: يا سيدي، إنّي عاهدت الله تعالى أن لا آخذ على القرآن أجرًا، ولم يأخذها، فرأيت أن هذا لا يقع من صبي إلّا لما لله فيه من العناية.
قلتُ: وصدق شيخه، فإنّ عناية الله هي التي أوصلته إلى ما وصل من كل خير من صغره، ولقد اتفق كلُّ من رآه ــ خصوصًا من أطال ملازمته ــ أنه ما رأى مثله في زهده في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهورًا، بحيث قد استقرّ في قلب القريب والبعيد من كلّ من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سُئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية.
وما اشتهر له ذلك إلا لمبالغته فيه، مع تصحيح النية، وإلاّ فمَن رأينا