كان رضي الله عنه مع شدّة تركه للدنيا ورفضه لها وفقره فيها وتقلّله منها= مؤثِرًا بما عساه يجده منها، قليلًا كان أو كثيرًا، جليلًا أو حقيرًا، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك عن التصدّق به، ولا الكثير فيصرفه النظر إليه عن الإسعاف به. فقد كان يتصدّق حتى إذا لم يجد شيئًا نزع بعض ثيابه ممّا يحتاج إليه فيَصِل به الفقير، وكان يستفضل من قوته القليل الرغيف والرغيفين فيؤثر بذلك على نفسه، وربّما خبأهما في كمّه ويمضي ونحن معه لسماع الحديث، فيراه بعضنا وقد دفعه إلى الفقير مستخفيًا، يحرص أن لا يراه أحد، وكان إذا ورد عليه فقير، وآثر المقام عنده يؤثره عند الأكل بالأكثر من قوته الذي جُعِل برسمه.
حدّثني الشيخ الصالح العارف زين الدين علي الواسطيّ ما معناه: أنّه أقام بحضرة الشيخ مدة طويلة. قال: فكان قوتنا في غالبها أنه كان في بكرة النهار يأتيني ومعه قدر نصف رطل خبزًا بالعراقي، فيكسره بيده لُقمًا ونأكُل منه أنا وهو جميعًا، ثم يرفع يده قَبْلي، ولا يفرغ باقي القُرْص من بين يديّ حتى أشبع، بحيثُ أنّي لا أحتاجُ إلى الطعام إلى الليل. وكنتُ أرى ذلك من بركة الشيخ. ثم يَبْقى إلى بعد العشاء الآخرة حتى يفرغ من جميع عوائده التي يفيدُ الناسَ بها في كلّ يوم من أصناف القُرَب. فيؤتى بعشائنا، فيأكل هو معي لُقَيْمات، ثم يؤثرني بالباقي. وكنتُ أسأله أن يزيدَ على أكْلِه فلا يفعل، حتى إنّي كنتُ في نفسي أتوجّعُ له من قلّة أكله.