للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولمّا منّ الله عليه بذلك جعله حجّة في عصره لأهله، حتى إنّ أهل البلد البعيدة عنه كانوا يرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم، ويعوِّلون عليه في كشف ما التبس عليهم حكمه، فيشفي غلّتهم بأجوبته المسدّدة، ويبرهن على الحق من أقوال العلماء المتعددة، حتى إذا وقف عليها كلُّ محقّ ذو بصيرة وقوى، ممن قد وُفّق لترك الهوى، أذعن بقبولها، وبان له حقّ مدلولها، وإن سمع عن أحد من أهل وقته مخالفته في حقه المشهور، يكون ممن قد ظهر عليه عند الخاصة والعامة فعل الشرور، والاشتغال بترّهات الغرور.

ومن أراد تحقيق ما ذكرته فليُمعن النظر ببصيرته، فإنه حينئذ لا يرى عالمًا من أهل أيّ بلد شاء موافقًا لهذا الإمام، معترفًا بما منحه الله تعالى من صنوف الإلهام، مثنيًا عليه في كل محفل ومقام، إلّا وراءه من اتّبع من علماء بلده الكتاب والسنة، واشتغل بطلب الآخرة ورغب فيها، وبالغ في الإعراض عنها وأهملها. ولا يرى عالمًا مخالفًا له، منحرفًا عنه، ملتبسًا بالشحناء له، إلا وهو من أكبرهم نَهَمًا في جمع الدنيا، وأوسعهم حيلًا في تحصيلها، وأكثرهم رياءً، وأطلبهم سمعةً، وأشهرهم عند ذي الُّلب أحوالًا رديّة، وأشدّهم على ذوي الحكم والظلم دهاءً ومكرًا، وأبسطهم في الكذب لسانًا، وإن نظر إلى محبّيه ومبغضيه من العوام، رآهم كما وصفت من اختلاف القبيلين الأولين.

ولقد أمعنت فكري ونظري، فرأيته كما وصفته، لا والله ما أتحرّج في أحدٍ منهما، ومن ارتاب في ذلك فليعتبر هو بنفسه فإنه يراه كذلك، إن أزاح عنه غطاء الهوى، وما كان ذلك كذلك إلّا لما علم الله سبحانه من حسن

<<  <   >  >>