هذه الخصال يمتثلها عظماء الرجال؛ فلم يكونوا يتخلون عن مروآتهم، وعاداتهم النبيلة حتى في أحلك المواقف.
وها هو سيد العظماء، وسيد ولد آدم نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك؛ فهو يقوم بصغار الأمور وكبارها؛ فلم يمنعه قيامه بأمر الدين، وحرصه على نشره، وقيادته للأمة، وتقدمه في ساحات الوغى- لم يمنعه ذلك كله من ملاطفة ذلك الطفل الصغير الذي مات طائره، وقولِه له:«يا أبا عمير ما فعل النغير؟»(١)
ولم يكن أحد يلهيه عن أحد ... كأنه والد والناس أطفال
فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء - فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.
تذكر كتب السير التي تناولت سيرة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه لما دَفَنَ ولَدَه عبد الملك - وهو أبر أولاده، وأكثرهم ديناً وعقلاً - مرَّ بقوم يرمون؛ فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارموا، ووقف، فرمى أحدُ الراميين فأخرج - يعني أبعد عن الهدف - فقال له عمر: أخرجت فقصِّر، وقال للآخر: ارمِ، فرمى فقصَّر - أي لم يبلغ الهدف - فقال له عمر: قصَّرت فبلِّغ.
(١) أخرجه البخاري (٦١٢٩و٦٢٠٣) ومسلم (٢١٥٠) عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيمٌ، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير ما فعل النغير» نغرٌ كان يلعب به. وهذا لفظ البخاري