وكان مولده سنة أربع وأربعين وألف، رحل مع والده الشيخ عبد الباقي رحمه الله إلى الحج في سنة خمس وخمسين وألف. وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة. وجمعه والده بعلماء مكة، وأخذ عنهم كما تقدم أيضا. ثم رحل رحلة ثانية إلى مصر سنة إحدى وسبعين وألف واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم كما تقدم أيضا. ثم في سنة اثنتين وسبعين وألف جلس لإفتاء الحنابلة لموت والده في ذلك العام. وتصدر للإقراء في الجامع الأموي بكرة النهار وبين العشائين، فقرأ الجامع الصغير في الحديث وصحيح البخاري بتمامه وغير ذلك، ولازم ذلك ملازمة كلية لم ينفصل عن ذلك شتاء ولا صيفا ولا ليلة عيد، مع ملازمة الجد والاجتهاد وغاية العبادة، وكان مجلسه مصانا من الغيبة وذكر الناس بسوء، وجميع أوقاته مصروفة في الخير إما مطالعة وإما تدريسا وإما تقريرا وإما سماعا للقرآن، وكان كثير الصدقات، ولم يعهد مفارقته للخيرات في حالة من الحالات، كثير الصمت إلا في ذكر أو قراءة، دائم الحضور والمراقبة، كثير الخوف من الله، لا يرى ضاحكا إلا نادرا، مهابا، ما رآه أحد إلا هابه، مجالسه كمجالس الملوك، وكان على قدم الصحابة والسلف والصالحين، عليه نور الولاية والصلاح، ما قرأ عليه أحد إلا فتح الله عليه، وكان يستسقى به الغيث، وللناس فيه الاعتقاد العظيم، وله وقائع وكرامات. أخبرني من أثق به أنه كان متصرفا في بلاد نجد، وكان فيه نفع عظيم.
وأخذ عنه خلق كثير من أجلهم الشيخ عبد القادر التغلبي المجلد الحنبلي وشيخنا العلامة الشيخ محمد الكفيري البصير، وشيخنا الفهامة الشيخ مصطفى ابن سوار، والشيخ عثمان بن الشمعة، وشيخنا شيخ الإسلام العلامة أحمد الغزي، والشيخ عثمان النحاس، والشيخ إسماعيل العجلوني وغيرهم من العلماء الأجلاء والمنتهين من أهل الشام والحرمين: منهم أستاذنا محمد عقيلة قدس سره. ومن بيت المقدس والبلاد الرومية، ومن الحلبيين والنجديين والأغراب الآفاقيين خلق كثيرون.
وانتهت إليه الصدارة بدمشق الشام ومشيخة الإقراء بحيث أنه لم يمت حتى رأى علماء الشام إما تلميذا له أو تلميذا لتلميذه. وولي خطابة الشامية الكبرى ظاهر دمشق ولم يزل في علو وترق مما ذكر إلى أن توفاه الله تعالى إلى رحمته. وذلك في شوال سنة ست وعشرين ومئة وألف. وصلي عليه في الجامع الأموي. ودفن بتربة الغرباء في مقبرة باب الفراديس بالقرب من ضريح والده الشيخ عبد الباقي، وولده الشيخ عبد الجليل رحمهم الله تعالى ونفعنا بهم في الدنيا والآخرة.
[سند صاحب المشيخة بمؤلفات ابن عربي]
هذا ويروي شيخنا صاحب هذه المشيخة رحمه الله تعالى تآليف الإمام الهمام أستاذ المحققين العارف بالله تعالى أبي عبد الله محيي الدين محمد بن علي بن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي ثم المكي ثم الدمشقي قدس سره العزيز عن سادات كرام منهم نور الدين علي الشبراملسي المصري، والشيخ عبد القادر بن الشيخ مصطفى الفرضي الصفوري، وسيد النقباء بدمشق السيد محمد بن السيد كمال الدين بن حمزة، ووالده الشيخ عبد الباقي الحنبلي المتقدم ذكرهم برواية الأول عن نور الدين علي الحلبي، عن البرهان العلقمي، عن أخيه محمد العلقمي، عن الجلال السيوطي، عن محمد بن مقبل الحلبي، عن أبي طلحة الحراوي الزاهد، عن الشرف الدمياطي، عن سعد الدين محمد بن الشيخ محيي الدين بن العربي، عن والده الشيخ محيي الدين قدس سره.
ورواية الثاني عن شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن الوارثي الصديقي، عن خاله عالم الإسلام وقطب الأولياء الكرام محمد بن أبي الحسن الصديقي. عن والده أبي الحسن، عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، عن الحافظ ابن حجر العسقلاني بروايته لذلك من طريقين: أحدهما عن السيد عبد الرحمن بن عمر القبابي، عن العز محمد بن إسماعيل بن عمر بن المسلم الحموي، عن العفيف سليمان بن علي التلمساني، عن شيخه صدر الدين محمد بن إسحاق القونوي، عن الإمام محيي الدين محمد بن العربي قدس سره.
والثاني عن العلامة شمس الدين محمد بن حمزة الفناري الرومي، عن والده حمزة بن محمد بن محمد الفناري، عن الصدر القونوي، عن الشيخ محيي الدين قدس سره.