قال: ولما احتضر معاذ بن جبل قال لوط بن يحيى: حدثنا الصعب ابن زهير عن شهر بن حوشب قال: أتى آت معاذ بن جبل عند موته فقال: يا معاذ، أوصني بما ينفعني قبل أن تفارقني، فلعلي أحتاج إلى سؤال الناس بعدك، فلا أجد فيهم مثلك. قال معاذ: بلى، صلحاء الناس بحمد الله كثير، ولن يضيع الله أهل هذا الدين. خذ عني ما آمرك به: كن من الصائمين بالنهار، والمستغفرين بالأسحار، والذاكرين الله على كل حال، ولا تشرب الخمر، ولا تعقق والديك، ولا تأكل مال اليتيم، ولا تفر من الزحف، ولا تأكل الربا، ولا تدع الصلاة المكتوبة، وصل رحمك لله، وكن بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً. وأنا لك بالجنة زعيم. ثم مات رحمه الله. فصلى عليه عمرو بن العاص.
[وصية عبد الملك بن مروان]
رحمه الله
وأوصى عبد الملك بن مروان حين حضرته الوفاة فقال لبنيه: أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية وجنة واقية. والتقوى خير زاد، وأفضل في المعاد، وأحصن كهف، وأزين حلية. ليعطف الكبير منكم على الصغير وليعرف الصغير منكم حق الكبير مع سلامة الصدور والأخذ بجميل الأمور. فإنكم إذا فعلتم ذلك كنتم للعز خلقاء، وهابتكم الأعداء. إياكم والتباغي والتحاسد فإن بهما هلك الملوك الماضون، وذوو العز المتكبرون. انظروا يا بني، مسلمة بن عبد الملك فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي تفترون عنه، ومجنكم الذي تستجنون به. وأكرموا الحجاج، فإنه الذي وطأ لكم المنابر، وكفاكم قحم تلك القناطر. كونوا أولاداً أبراراً، وفي الحرب أحراراً، وللمعروف مناراً، واحلولوا في مرارة، ولينوا في شدة. ثم رفع رأسه إلى الوليد فقال: لا ألفينك يا وليد، إذا وضعتني في حفرتي تعصر عينيك كما تفعل الأمة، بل شمر واتزر، والبس جلد نمر، وادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بالسيف هكذا. أوصيك بأخيك عبد الله بن عبد الملك وبعمر بن عبد العزيز خيراً. لا تعزلهما ولا تستبدل بهما. وأوصيك بابن عمنا هذا خيراً يعني علي بن عبد الله بن العباس. فأما الحجاج فلست تستغني عنه.
ثم أرسل إلى خالد وعبد الله، ابني يزيد بن معاوية. فلما جلسا قال: ما تقولان: أأقيلكما بيعة الوليد؟ قالا: معاذ الله يا أمير المؤمنين. قال: لو قلتما غير ذلك لقتلتكما على حالي هذه. قوما. فقاما فخرجا. ثم دعا بقداح بعدة ولده فأمر بها فجمعت ثم دفعها إلى الوليد فقال: اكسرها. فلم يقدر على ذلك. ثم دفعت إلى آخر، ثم آخر، حتى استقراهم جميعاً، فأعياهم كسرها، فأمر بها ففرقت، ثم دفع إلى كل واحد منهم قدحاً وأمره بكسره ففعل، فقال: هكذا أنتم بعدي، إن اجتمعتم لم يكسر أحد، وإن تفرقتم كسرتم. وقال: احفظوا عني هذه الأبيات: الكامل
انفوا الضّغائن عنكم وعليكم ... عند المغيب وفي الحضور الشّهّد
بصلاح ذات البين طول بقائكم ... إن مدّ في عمري وإن لم يمدد
فلمثل ريب الدّهر ألّف بينكم ... بتواصلٍ وتراحمٍ وتودّد
حتّى تلين قلوبكم وجلودكم ... لمسوّدٍ منكم وغير مسوّد
إنّ القداح إذا أجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنقٍ وكسرٍ أيّد
عزّت فلم تكسر وإن هي بدّدت ... فالوهن والتّكسير للمتبدّد
فلما توفي سجاه الوليد، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لم أر مثلها مصيبةً ولا مثلها نعمة. فقد الخليفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على عظم المصيبة. والحمد لله رب العالمين، على عظيم النعمة. ثم دعا الناس إلى بيعة، فبايع الناس ولم يتخلف أحد. فسمع أحد ولد عبد الملك يبكي ويقول: مات، والله، أمير المؤمنين. فقال: ويلك لا تقل هكذا، ولكن قل كما قال أخو بني أسيد أوس بن حجر: الطويل
إذا مقرمٌ منّا ذرا حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقرم
وأوصى أبو قيس بن صرمة الأنصاري ولده عند موته فقال: الخفيف
يا بنيّ، الأرحام لا تقطعوها ... وصلوها قصيرةً من طوال
واتّقوا الله في ضعاف اليتامى ... ربّما يستحلّ غير الحلال
اعلموا أنّ لليتيم وليّاً ... عالماً يهتدي بغير السّؤال
يا بنيّ، الأيّام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها وكرّ اللّيالي
واعلموا أنّ مرها لنفاد ال ... خلق ما كان من جديدٍ وبال
واجمعوا أمركم على البرّ والتق ... وى وترك الخنا وأخذ الحلال
وأنبأنا أبو عبد الرحمن قال: أنبأنا أبو يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير اللخمي قال: جاء أبو جهم بن حذيفة العدوي، وهو يومئذ ابن مئة سنة، إلى مجلس لقريش، فأوسعوا له عن صدر المجلس وقائل يقول: بل كان عروة بن الزبير مكان أبي جهم فقال. يا بني أخي، أنتم خير لكبيركم من مهرة لكبيرهم. قالوا: وما شأن مهرة وكبيرهم؟ قال: كان الرجل منهم إذا كبر وضعف أتاه ابنه أو وليه فعقله بعقال ثم قال: قم. فإن استتم قائماً وإلا حمله إلى محبس لهم يجرى على أحدهم فيه رزقه حتى يموت. قال: فجاء شاب منهم إلى أبيه ففعل ذلك، فلم يستتم قائماً، فحمله فقال: أي بني إلى أين؟ قال: إلى سنة آبائك، فقال: أي بني لا تفعل، فوالله لقد كنت أوعدك فلا أحقك، وأماشيك فما أبذك وأسقيك الدأدأة قال: وكانت العرب تقول: إذا سقي الغلام اللبن وهو قائم كان أسرع لشبابه فقال الفتى: لا جرم، والله، لا يذهب بك، فاتخذتها مهرة سنة.
وأخبر عبد الرحمن بن إسرائيل عن أشياخه قال: لما حضرت الوفاة سعيد ابن العاصي قال: يا بني، أيكم يكفل عني ديني؟ قال عمرو بن سعيد: علي دينك يا أبه. كم هو؟