للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الآخرة على شئونِهم في الدُّنيا؛ لأنَّ لذلك العالمِ سُنَنًا ونواميسَ، تخالف سُنَنَ هذا العالَم ونواميسَه» (١).

فيبقى أنَّ الرُّؤية الَّتي يُهيِّؤها الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين في الجنَّة، هي مِن الأمورِ الغيبِيَّة الَّتي نقطع فيها الطَّمعَ عن إدراكِ حقيقَتها وكيفيَّتها على وجهِ الإحاطة واليقين، وذلك يدلُّ على مذهبِ السَّلف، الَّذي عُبِّر عنه بأوْجَزِ عبارةٍ اتَّفق عليها جميعُهم، في قولهم: «رؤيةٌ بلا كيف»، فهي خاليةٌ «عن الشَّرائطِ والكيفيَّاتِ المُعتبرةِ في رؤيةِ الأجسامِ والأغراضِ» (٢).

وأمَّا قولهم: بأنَّ إثباتَ الرُّؤية يستلزم إثباتَ الجِهة لله تعالى والتَّحيُّز له، وأنَّه مُنَّزه عن ذلك .. إلخ، فجوابه:

أنَّ لفظ (الجِهة) مِن الألفاظ المُجملَة الَّتي لم يَرِد نفيُها ولا إثباتُها في الشَّرع، فتأخذ حكمَ مَثيلاتها مِن استفسارِ قائلِها عن مُرادِه منها، فإنْ أرادَ حَقًّا قُبِل، وإن أراد باطلًا رُدَّ، وإن احتملَ حقًّا وباطلًا: لم يُقبَل مُطلقًا، ولم يُرَدَّ جميعُ معناه، بل يُتوَقَّف في اللَّفظِ، ويُفسَّر المعنى.

فيُقال هنا لمِن نَفى ما سَّماه بالجِهة:

«أتريد بالجهةِ أنَّها شيءٌ مَوجود مخلوق؟ فالله ليس داخلًا في المخلوقات؛

أم تريد بالجهة ما وراء العَالَم؟ فلا ريب أن الله فوق العالَم، بائنٌ مِن المخلوقات.

وكذلك يُقال لمِن قال: إنَّ الله في جِهة:

أتريد بذلك أنَّ الله فوق العالِم؟ أو تريد به أنَّ الله داخلٌ في شيءٍ مِن المخلوقات؟!

فإن أردتَ الأوَّل فهو حقٌّ، وإن أردتَ الثَّاني فهو باطل، ولا معنى (الجِهة)


(١) «تفسير المنار» (٩/ ١٣٥).
(٢) «جلاء العينين» لخير الدين الآلوسي (ص/٤٧٤)، وانظر «تفسير المنار» (٩/ ١٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>