ألا أبلغ أبا بكر رسولاً ... شبابهم الأكارم والكهولا
فإن أذهبْ وأترككم ورائي ... فقد أورثْتكم شرفاً طويلا
فإني أستئيس الله منكم ... من الفردوس مَرتفقاً ظليلا
بضربة كافرٍ من يوم زَحْفٍ ... يكونُ أداتُها وجعاً فليلا
ثم فسر فقال: أستيئس: يُعزّي نفسه عن قومه. وأهل بلادنا يسمون التعزية: التأسية، وبقول الرجل للآخر هل أسّيت عن كذا وكذا؟ ولم يكن يدري ما التعزية؟ إنما هي التأسية أساني وأسيته. ثم أنشد من ذلك للخنساء:
ولا يبكون مثل أخي ولكنْ ... أُعزّي النفسَ عنه بالتأسي
ثم قال: وبقول الرجل إني أُوسي نفسي عن ذلك.
وليس القول كما قال، ما أستيئس من التأسي في شيء، إنما أستيئس: أستعطي وأستعوض. فتأمل الشعر تجده شاهداً لنا، والعرب تقول: استآسه يستئيسه إذا استعطاه، وأنشدني أبو رياش:
وكان الإلهُ هو المُستآسا
أي المستعطى، والأوس: العطيّة، وأنشد لرجل يخاطب ذئباً:
فلأحشونَّك مشقصا ... أوساً أويسُ من الهبالة
فالأوس: العوض، وأُويسُ: الذئب، والهَبالة: العطيّة. يقول: أعوضك من العطية هذا المِشقصُ. وروى لنا الوهبيّ عن الرِّياشي في تفسير قول الأفوه الأوْدي:
أو موثقً في القِدِّ ذي همَّةٍ ... مُجتنبٍ مستأيسٍ مُستئيسْ
مستأيس: مُستعوض، ومستئيس: مستعيض.
١٨ - وأنشد أبو زياد لجُمل الضِّبابية:
وأنْ رُبَّ جارٍ قد حمينا وراءه ... بأسيافنا والحربُ يَشرى ذبابُها
وفسره فقال: شري الشر بين القوم، إذا اشتد حتى كأنَّ الذباب قد مسَّه من ذلك شرى في جلده.
وهذا لا معنى له بوجه. وإنما ذباب كل شيء حدّه فأراد يشرى حدها ويشتد. ١٩ - وقال أبو زياد: وقال الوبري:
لا تأمننَّ فزاريّاً خلوتَ به ... على قلوصكَ واكتبْها بأسيارِ
لا تأمننَّ فزاريّاً خلوت به ... بعد الذي امتلَّ أيرَ العَيْر في النارِ
وليس هذا الشعر كما روى، ولا هو للوبري. وإنما هو لسالم بن دارة يهجو زُميّل بن أبير والرواية:
لا تأمننَّ فزاريّاً خلوت به ... بعد الذي امتلَّ أيرَ العَيْر في النارِ
وإن خلوت به في الأرض وحدكما ... فاحفظْ قلوصك واكتبها بأسيارِ
إني أخاف عليها أنْ يبيِّتها ... عاري الجواعر يغشاها بقُسبارِ
إنَّ الفزاريَّ لا يَنفكُّ مُغْتَلماً ... من النَّواكهِ تَهذاراً بتهذارِ
أنا ابنُ دارةَ معروفاً بها نسَبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ؟
ولسالم فيهم أشعار مشهورة، وله معهم قصص مذكورة. ولما ضرب زميّل سالماً، قال الكميت:
ولا تُكثروا فيها الضِّجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
٢٠ - وقال أبو زياد: المومس: الذي يأمس بين الناس أي يفسد بينهم بالنميمة..
وإنما المومس والمومسة: الفاجرات، ومن ذلك قول الراعي:
تغنَّى ليبلغني خَنزرٌ ... وكلُّ ابن مُومسةٍ أخْزَرُ
فأما الذي يمأس بين الناس فهو المؤوس، وقد مأس يمأسُ، قال العجّاج:
ويَعْتَلون من مأى في الدّحْسِ ... بالمأس يرقى فوق كل ماس
مأى: أفسدَ مثل مأسَ.
٢١ - وقال أبو زياد: وكل ذات ناب من السباع رغوث إذا كان معها ولد ترضعه، ولا يقال هذا للمعزى ولا للإبل: وربما قيل للمرأة رغوث، ولا يقال لذات حافر رغوث.
هذا شرط باطل لأنهم قد أجروا في أفعل من كلامهم أن قالوا " آكل الأشياء بِرْذونة رَغوث " نقل ذلك عنهم جلة الرواة.
٢٢ - وأنشد أبو زياد للحنفي:
إذْ لبست أُمُّكَ بُرْجديّا ... ما جئتَ من جال استها سويّا
وفسره فقال: الأجوال: الجوانب واحدها الجال.
وهو غلط لأن الانسان لا يخرج من الدُّبر وإنما يخرج من القُبل، والرواية:
ما جئتُ من جار استها سويّا
والعرب تسمي الفرج: الجار، ومنه قول الشاعر:
يمْرجُ جار استها إذا ولدتْ ... يهدِرُ من كلِّ جانب خُصُمُ
وكذلك قول الراجز: