للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإن أخبر بمخالف، فمُحال، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنْسَخُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرِيعَتَهُ المستقِرَّة فِي حَيَاتِهِ، لأنَّ الدِّينَ لَا يَتَوَقَّفُ استقرارُه بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةِ، لأنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ رُؤْيَاهُ غيرُ صَحِيحَةٍ، إِذْ لَوْ رَآهُ حَقًّا لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ.

لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ رَآنِي)) وفيه تأويلان:

أحدهما: مَعْنَى الْحَدِيثِ ((مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا. فَقَدْ رَآنِي، إِذْ لَا يَتَمَثَّلُ الشيطان بي)) إذ لم يقل: من رآني أَنَّهُ رَآنِي، فَقَدْ رَآنِي. وإنَّما قَالَ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، وأنَّى لِهَذَا الرَّائِي الَّذِي رَأَى أَنَّهُ رَآهُ عَلَى صُورَةٍ أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا؟ وَإِنْ ظنَّ أَنَّهُ رَآهُ، مَا لَمْ يعلم أنَّ تلك الصورة صورته بَعَيْنِها، هذا مالا طريق لأحد إلى معرفته.

وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أنَّ الْمَرْئِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنِ اعْتَقَدَ الرَّائِي أَنَّهُ هُوَ.

الثَّانِي: يَقُولُهُ علماءُ التَّعْبِيرِ: إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأْتِي النَّائِمَ فِي صُورَةٍ مَا؛ مِنْ مَعَارِفِ الرَّائِي وَغَيْرِهِمْ، فَيُشِيرُ لَهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ: هَذَا فُلَانٌ النَّبِيُّ فيُوقع اللبْس عَلَى الرَّائِي بِذَلِكَ وَلَهُ عَلَامَةٌ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أنْ يُكَلِّمَهُ المُشار إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرِ الْمُوَافِقَيْنِ لِلشَّرْعِ، فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَا يُوثق بِمَا يَقُولُ لَهُ أَوْ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ، نَعَمْ، لَا يُحكم بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى الْعِلْمِ، لِإِمْكَانِ اخْتِلَاطِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بالآخَر، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَستدل بِالرُّؤْيَا فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا ضَعِيفُ الْمُنَّةِ (١) . نَعَمْ يَأْتِي الْمَرْئِيَّ تَأْنِيسًا وبشارة


(١) الْمُنَّة: القوة، وخُصَّت بقوة القلب والمقصود ضعيف القلب.