فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسلافها، مِنَ الآراءِ الْمُنْحَرِفَةِ، والنِّحَل الْمُخْتَرَعَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَسُرعان مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بالنُّكر، ونسبوا إليه كلَّ مُحَالٍ، وَرَمَوْهُ بأَنواع الْبُهْتَانِ، فَتَارَةً يَرْمُونَهُ بالكذب وهو الصادق المصدوق، وآونة يتهمونه بالسِّحر، وكرةً يقولون: إنَّه مجنون، كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ والموافقة لهم على ما ينتحلون، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، لأنَّه خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كانوا عليه من كفرهم وضلالهم.
فأَبى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ الصَّوَابِ؛ وَأَنْزَلَ الله: {قُلْ يا أَيُّها الكافِرُونَ - لاَ أَعْبُدُ مَا تعْبُدُونَ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ الْعَدَاوَةِ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ، وَصَارَ أَهل السِّلم كُلُّهُمْ حرباً عليه، عَادَ الوليُّ الحميمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الأَليم، فأَقربهم إِلَيْهِ نَسَبًا كَانَ أَبعد النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ، كأَبي جهلٍ (١) وَغَيْرِهِ، وأَلصقهم بِهِ رَحِمًا؛ كَانُوا أَقسى قُلُوبًا عَلَيْهِ، فأَي غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا سلَّطهم عَلَى النَّيْل مِنْ أَذاه، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ والكلاءَة، حَتَّى بلَّغ رِسَالَةَ رَبِّهِ ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثناءِ نُزُولِهَا، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا، تُبْعِدُ بَيْنَ أَهلها وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حقها وبين ما ابتدعوا، وَمَا زَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لَهَا، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد، خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ، زَمَانَ ظُهُورِهِمْ عَلَى دعوة الإسلام.
(١) الأولى أن يقول كأبي لهب، لأنه عمُّه وهو أقرب الناس له نسباً وأشدهم عداوة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute