للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والفخر فيما بقي من شعره أقل من الرثاء، إذ لم نعثر على شيء إلا ما بثه في ثنايا بعض مقطوعاته السابقة، وتمدح فيه بقبيلته ومضائها وبأسها، وإلا هذه المقطوعة التي نظمها عندما اختاره الجنيد بن عبد الرحمن المري ليكون رسوله إلى هشام بن عبد الملك. وكان انتخب قبل سيف بن وصاف العجلي فجبن عن السير، وخاف الطريق، فاستعفى الجنيد فأعفاه. وهو يتمجد فيها بشدته وجرأته، وتجشمه للمكاره، واقتحامه للأهوال، ولباقته في السفارة، لأن هذه الوظيفة ليست محدثة في قومه، ولا طارئة عليهم، وإنما هي أصيلة فيهم، إذ لهم فيها سابقة وقدمة في أيام عثمان بن عفان وقبلها، يقول١:

لعمرك ما حابيتني إذ بعثتني ... ولكنما عرضتني للمتالف

دعوت لها قوما فهابوا ركوبها ... وكنت امرءا أركابة للمخاوف

فأيقنت إن لم يدفع الله أنني ... طعام سباع أو لطير عوائف٢

قرين عراك وهو أيسرها لك ... عليك وقد زملته بصحائف٣

على عهد عثمان وقدنا وقبله ... وكنا أولي مجد تليد وطارف

وله مقطوعتان يمكن أن نقول إنه صدر فيهما عن روية وأناة، وتريث وتثبت، متجردا من العاطفة، ومتخلصا من العصبية. وهو في الأولى يحذر قتيبة بن مسلم من خطورة الموقف بعد أن عزم على خلع سليمان بن عبد الملك بفرغانة، ناصحا له بأن لا ينخدع عن الشاغبين عليه، والماكرين به من جميع القبائل، من تميم والأزد، ومن بكر أيضا، فكلهم خونة غدرة يتحفزون لاغتياله، وإلا فإنه سيلاقي المصير الذي لاقاه عبد الله بن خازم قبله يقول٤:

تنمر وشمر يا قتيب بن مسلم ... فإن تميما ظالم وابن ظالم


١ الطبري ٩: ١٥٤٥.
٢ العوائف: جمع عائف، وهي الطير التي تحوم على الماء وعلى الجيف، وتتردد.
٣ عراك: هو ابن عم الجنيد، وكان مع نهار في الوفد.
٤ نقائض جرير والفرزدق ١: ٣٥٩.

<<  <   >  >>