للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر ما ذكر من وجوه الجمع والتوفيق بين النصوص مع الإمكان، إذا أمكن الجمع تعين؛ لأنه عملٌ بالنصوص كلها، فيحمل أحد النصين على حال، والنص الآخر على حال، ولو كان الجمع بحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد؛ لأن ذلك وإن كان رفعاً جزئياً للحكم إلا أنه أسهل من الرفع الكلي الذي يكون بالنسخ؛ لأن النسخ رفعٌ كلي للحكم، وأما التخصيص والتقييد فهو رفعٌ جزئي، كما تقدم بيانه والتمثيل له.

"وحيث لم يمكن" التوفيق بين النصوص على ما سبق تفصيله "وسابقٌ دري" يعني عرف المتقدم من النصين.

"عين نسخ حكمه بالآخر" يعني تعين حكم المتقدم بالمتأخر، ولا يلجأ إلى النسخ ولا الترجيح إلا إذا لم يمكن الجمع، فإذا لم يمكن الجمع وعرف المتقدم من المتأخر حكم بالنسخ، والنسخ رفع حكم شرعي ثابت بدليل بخطابٍ آخر، بدليل آخر متراخٍ عنه، رفع الحكم بالكلية يسمى نسخ، وجاء في تعبير السلف عن التخصيص بأنه نسخ، نعم هو نسخٌ جزئي لا نسخٌ كلي، وأما الاصطلاح عند المتأخرين وهو الذي استقر عليه العمل عند أهل العلم أنه الرفع الكلي، فإذا تعذر وانسدت جميع المسالك مسالك الجمع يلجأ حينئذٍ إلى القول بالنسخ، فإذا وجدنا نصاً يعارضه نصٌ آخر، وعرفنا المتقدم من المتأخر حكمنا بأن المتأخر ناسخ للمتقدم.

فمثلاً في حديث شداد بن أوس يقول: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) وجاء في بعض طرق الحديث أنه كان في عام الفتح، وفي حديث ابن عباس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- احتجم وهو محرم، وفي رواية: "احتجم وهو صائم ومحرم" دلت الروايات الأخرى أنه كان في حجة الوداع، كان في حجة الوداع، ومعلومٌ أن حجة الوداع متأخرة عن عام الفتح، فمع هذا التعارض الذي يفيد حديث شداد بن أوس أن الحجامة تفطر الصائم، والذي يفيده حديث ابن عباس أن الحجامة لا تفطر الصائم، فالناسخ هو المتأخر وهو حديث ابن عباس لأنه في آخر عمره -عليه الصلاة والسلام-، والمنسوخ حديث شداد، وبهذا حكم الإمام الشافعي، وبهذا حكم الإمام الشافعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>