للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والنسيئة فالنقد خير، وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكثر وأفضل فهي خير. فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة؟

كما في مسند الإمام أحمد والترمذي من حديث المستورد بن شداد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما الدُّنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بِم يرجع؟))

فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة من أعظم الغبن، وأقبح الجهل، وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة؟ فأيما أولى بالعاقل؟ إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة، وحرمان الخير الدائم في الآخرة، أم ترك شيء صغير حقير منقطع عن قرب، ليأخذ ما لا قيمة له، ولا خطر له، ولا نهاية لعدده، ولا غاية لأمده؟

فأما قول الآخر: لا ترك متيقناً لمشكوك فيه.

فيُقال له: إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله، أو تكون على يقين من ذلك؛ فإن كنت على يقين من ذلك فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب، لأمر متيقن لاشك فيه ولا انقطاع له.

وإن كنت على شك فراجع آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته، ووحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا به عن الله، وتَجَِرَّدْ وقُم لله ناظراً أو مناظراً، حتى يتبين لك أن ما جاءت به الرسل عن الله فهو الحق الذي لاشك فيه، وأن خالق هذا العالم ورب السموات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبر به رسله عنه، ومن نسبة إلى غير ذلك، فقد شتمه وكذبه، وأنكر ربوبيته وملكه؛ إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة، أن يكون الملك الحق عاجزاً أو جاهلاً، لا يعلم شيئاً، أو لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يثيب، ولا يعاقب، ولا يعز من يشاء، ولا يذل من يشاء، ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته وجوانبها، ولا يعتني بأحوال رعيته بل يتركهم سدى

<<  <   >  >>