كان لنزول القرآن باللغة العربية أعظم الأثر في توطيدها وتثبيت دعائمها وتقوية سلطانها على الألسن قبل النفوس، ومنذ نزول القرآن ارتبطت قدسية القرآن باللغة العربية فصار تعلم العربية فرضا على جماعة من الأمة وهم الذين يتصدون لتفسير القرآن، ودراسة التراث الإسلامي. والحقيقة التي لا مراء فيها أن العلاقة بين العربية والقرآن كالعلاقة بين وجهي العملة الواحدة، فلا فهم للقرآن إلا بالعربية، ولا سلطان للعربية إلا بالقرآن. والمتتبع للدرس اللغوي منذ عصر الجمع والرواية والتدوين، يرى إلى أي مدى أثر القرآن في اللغة العربية.
فعلى صعيد لهجات القبائل العربية، تجد الفضل الأكبر في الحفاظ عليها حتى آخر الزمان يعود إلى القرآن الكريم وقراءاته، ولولاه لما سمعت هذه اللهجات، ولضاعت كما ضاع الكثير غيرها من التراث العربي الذي لم يتعلق بالقرآن. وكان للقرآن الفضل دون منازع وراء جمع اللغة وروايتها وتدوينها وبعد عصر الجمع والتدوين، تفرغت جماعة من العلماء وتوفرت على دراسة العربية، وكانت هذه الدراسات معظمها وإن لم تكن كلها من منطلق ديني، وهو خدمة القرآن الكريم عن طريق تسهيل وتعليم لغته للخاصة والعامة قربة إلى الله تعالى، حتى أنه يصعب على المطالع في تراجم علماء اللغة القدامى أن يجد أحدا منهم بعيدا عن القرآن. وقد ذكر صراحة جُلُّ مَنْ أَلَّفَ في عِلْمِ العربية في مقدمة كتبهم أن دافعهم هو خدمة القرآن. بل إن معظم رجال الدين في مختلف العصور يعدون من اللغويين، ذلك أن التصدي لحمل القرآن لابد معه من أدوات تعين على فهمه، ومن أول هذه الأدوات اللغة العربية، ومن هنا تجد نجوما لمعت في سماء العربية ودراستها هم في الأصل دعاة وحملة قرآن مثل: ابن عباس، والطبري، والقرطبي، وأبي حيان وابن مالك، والإمام مالك بن أنس، والشافعي وغيرهم كثير؛ ذلك لأن" حياة لغتنا العربية في هذا الكتاب الكريم، ولا يعرف التاريخ لغة اتصلت حياتها بكتاب مقدس كما تتصل حياة العربية بالقرآن. ولا سبيل إلى فهم حياة هذه الأمة إلا بدرس كتابها ودرس لغتها التي عاشت فيه.