للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: قد تكلمت على مفردات هذه الآية، أعني قوله- سبحانه- {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ولم تتكلم على مجموعها من حيث محلها، والعرض الذي سيقت له؟ قلت: هي مبتدأة قسمية إنشائية لا محل لها (١) من الإعراب.

وأما العرض الذي سيقت له فهو ترهيب عباد الله- سبحانه- عن معاصيه، وإهمال م! ا أوجبه على عباده من الإيمان، والعمل، وترغيبهم بالإيمان وعمل الصالحات، وإن ذلك هو الذي يكون به خروجهم من ظلمات الخسر إلى أنوار الإيمان والطاعة، فمن ألقى السمع وهو شهيد [١٠ب] إلى هذا الوعد والوعيد، والترغيب والتهديد جذبه ذلك إلى خير البداية والنهاية، ونعم الدنيا والآخرة، ونجا من دركات الخسران، ووصل إلى درجات الجنان. ومعلوم أن العقلاء من هذا النوع الإنساني يطلبون الوصول إلى النعيم الأبدي، والعيش الذي لا ينقطع ولا يغني، لأن نعيم الدنيا وإن بلغ في الحسن والرفاهة إلى أرفع الرتب، وأعلى المنازل فهو مكدر بأنه زائل ذاهب، والانتقال عنه قريب وإن ظنه من طاوع كواذب الآمال بعيدا، وكل عاقل يعلم أن كل نعيم يزول، وكل نعمة تذهب، فيكون حزنها أكثر من سرورها، وغمها أعظم من الفرح لها. وقد أحسن المتنبي (٢) حيث يقول:

أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا


(١) الواو حرف قسم وجر، والعصر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجملة إن الإنسان .... جواب القسم لا محل لها، وإن واحمها واللام المزحلقة وقي خمس خبر إن.
وانظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه محي الدين الدرويش (١٠/ ٥٧٢ - ٥٧٣).
(٢) في ديوانه (٣/ ٢٢٤).
وقال أبو البقاء: المعنى يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة، لعلمه أنه زائل عنها.
يقول: السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه هو أشد الغم، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له ذلك السرور.