للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"كتبت له حسنة" (١) فإن هذا الحديث يدل على أكمل دلالة، وينادي بأعلى صوت أن الهم مغفور بجميع أقسامه. ما لم يعمل به ولا أصرح، وأوضح من قوله: "ما لم يعملها"، فإن عملها كتبت عليه سيئة" (٢).

فإن التقييدين "ما لم يعملها" ثم المجيء بالشرطية، وجعل الكتب لها عليه جزاء لعملها في غاية الوضوح. فهل أوضح من هذا وأنطق من دلالته؟! فكيف يقال: إن هذا محمول على ما لم يستقر (٣) دون ما استقر من حديث النفس؟ وما الذي يفيد أن هذا الاستقرار قد خرج من الخواطر القلبية والأحاديث النفسية إلى حيز الأفعال الجوارحية؟ وما الموجب لهذا التأويل المتعسف والتخصيص المتعنت؟ وما المقتضي لتخصيص هذا الكلام النبوي، والعبارة المحمدية؟! فإن هذا من التقول على الله بما لم يقل، ومن إثبات الإثم على العباد،


(١) قال الحافظ في "الفتح" (١١/ ٣٢٦): يحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر، والكف عن الشر خير، ويحتمل أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة. فإن تركها من مخافة الله سبحانه كتبت حسنة مضاعفة.
وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركاً إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلاً فيجد الباب مغلقاً ويتعسر فتحه.
ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب - من هم ... ".
وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علماً فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء".
فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هماً مجرداً من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) تقدم في بداية الرسالة وانظر "الفتح" (١١/ ٣٢٧ - ٣٢٨).