للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها، أو أقوى منها لم يلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونها دليلا كالبينة والإقرار.

وأما سقوط الحد عن المعترف، فإذا لم يتسع له نطاق عمر بن الخطاب فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم فقال: لأنه قد تاب إلى الله تعالى، وأبى أن يحده. ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله، وحده وإنقاذ الرجل المسلم من الهلاك، وتقويم حياة أخيه، واستسلامه للقتل أكثر من السيئة التي فعلها مقاومة هذا الدواء لذلك الداء.

وكانت القوة صالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة [لنا] (١) بحدك، وإنما جعلناه طهرة ودواء، فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك. فأي حكم أحسن من هذا وأرشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ وبالله التوفيق انتهى (٢).

ولا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة في غاية البعد؛ فإن وجد أن الرائحة متنوعة من فم الشارب، مما لا يبقى معه شك ولا ارتياب أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما نحن فيه تلك المنزلة ويلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها، والجماعة الممسكون له لم يخبروا بغير وجدانهم له يشتد، ولم يكن هناك إلا مجرد الدعوى من المرأة مع أنها مقرة بأنها قد استغاثت برجل مر عليها قبل استغاثتها بالجماعة. وأبعد من ذلك جعل هذه القرينة مساوية لقرينة الحبل. وكل عاقل يعلم أن بين الواقعتين ما بين السماء والأرض؛ فإن من المقطوع به أن المرأة التي لا زوج لها لا تحبل إلا بعد زنا، هذا مما لا يشك فيه أحد.

وأما تنزيله للظن الحاصل بهذه القرينة منزلة الظن الحاصل من الشهادة، فمن الغرائب [١٠] التي يتعجب منها؛ فإن الله - جل جلاله - قد تعبدنا بالعمل بالظن


(١) في المخطوط "إنا" وما أثبتناه من إعلام الموقعين (٣/ ١٠).
(٢) كلام ابن القيم في إعلام الموقعين (٣/ ٩ - ١٠).