للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذا الدليل يدل على أن ما كان من المباحات ذريعة إلى الحرام ولو نادرا فالورع الوقوف عنده وتركه.

ولهذا قال بعض السلف (١): إن الورع ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس. وقد كان السلف الصالح يأخذون من ذلك بأوفر نصيب حتى كان كثير منهم تمر عليه السنون الكثيرة فلا يرى مبتسما.

ومن هذا الجنس ما حكاه صاحب (٢) النبلاء (٣) عن محمد بن سيرين - رحمه الله - أنه اشترى زيتا ليتجر بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة فأراق الزيت كله، ولم ينتفع بشيء منه. وروي عنه أيضًا أنه اشترى شيئا فأشرف فيه على ربح ثمانين ألف درهم فعرض في قلبه شيء فتركه. قال هشام ما هو والله بربا.

ومثله ما يروى عن بعض الأئمة من أهل البيت - رضي الله عنهم - أنه كان له دجاج فمر بهن حب لبيت المال فانتشر منه شيء يسير فتسابقت إليه الدجاج فأكلت منه حبات فأخرجها [١٢]- رضي الله عنه - عن ملكه وجعلها لبيت المال، وهذا الإمام هو المؤيد بالله (٤) أحمد بن الحسين بن هارون - رحمه الله تعالى - ويروى عنه أيضًا أنه كان ينظر في بعض الأمور المتعلقة ببيت المال في ضوء الشمعة، فجاءت امرأته في تلك الحال فأطفأ الشمعة فظنت المرأة أنه كره النظر إليها فأخبرها أن الشمعة لبيت المال، وأنه ينظر بضوئها ما كان من الأشغال يختص ببيت المال، ولا يجوز له أن ينظر بها إلى وجه امرأته.

وكذلك روي عنه أنه كان يكتب الأمور المتعلقة ببيت المال في دروج ويغرم لبيت المال ما تبقى من البياض بين السطور يقدره ويسلم قيمته.


(١) انظر "الزهد والورع والعبادة" لابن تيمية (ص ٥٠).
(٢) أي الذهبي في "سير أعلام النبلاء".
(٣) (٤/ ٦٠٩).
(٤) وانظر الأعلام (١/ ١١٦).