للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حلال وأيديهم مكفوفة عن الظلم فلا يخافون السؤال عن دم أو مال بل قلوبهم متعلقة بالرجاء كل واحد منهم يرجو الانتقال من دار شقوة وكدر إلى دار نعمةٍ وتفضل، وأما ذلك القاضي المقلد فهو منغَّص العيش منكد النعمة مكدَّرة اللذة لانه - لما يرد عليه من خصومة الخصوم ومعارضة المعارضين ومصادرة المتمنّعين من قبول أحكامه وامتثال حله وإبرامه - في هموم وغموم ومكابدة ومناهدة، ومجاهدة ومع هذا فهو متوقعٌ لتحول الحال والاستبدال به وغروب شمسه وركود ربحه وذهاب سعده عن نفسه وشماته أعدائه ومساءة أوليائه فلا تصفو له راحة ولا تخلص له نعمة، بل هو ما دام في الحية في أشد الغم وأعظم النكد كما قال المتنبي (١):

أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا

ولا سيما إذا كان محسودًا معارضًا من أمثاله فإنه لا يطرق سمعه إلا ما يكمده، فحينًا يقال له: الناس يتحدثون أنك غلطت وجهلت وحينًا يقال له قد خالفك القاضي الفلاني أو المفتي الفلاني فنقض حكمك وهدم علمك [٥٩] وغض من قدرك وحط من رتبتك وقد يأتيه المحكوم له منه فيقول له جهاراً وكفاحًا فلان قال لا عمل على حكمك ونحو ذلك من العبارات الخشنة فإن قام وناضل عن حكمه ودافع فهي قومة جاهلية ومدافعة شيطانية طاغوتية قد تكون لحراسة المنصب وحفظ المرتبة والفرار من انحطاط القدر وسقوط الجاه ومع ذلك فهو لا يدري هل الحق بيده أم بيد من نقض عليه حكمه لأن المسكين لا يدري بالحق بإقراره وجميع المتخاصمين إليه بين متسرع إلى ذمه والتشكي منه وهو المحكوم عليه يدّعي أنه حكم عليه بالباطل أو ارتشى من خصمه أو داهنه ويتقرر هذا عنده بما يُلقيه إليه من ينافس هذا المقلد من أبناء جنسه من المقلدة الطامعين في منصبه أو


(١) انظر ديوانه (٣/ ٢٢٤) بشرح أبي البقاء العكبري. ط: دار المعرفة.
أشد الغم: هو السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه، لأنه يراعي وقت زواله، ولا يطيب له السرور، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه فهو يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورًا ومكانة لعلمه أنه زائل عنها.