الراجين لرفده أو النيابة عنه في بعض ما يتصرف فيه فإنه يذهب يستفتيهم ويشكو عليهم فيطلبون غرائب الوجوه ونوادر الخلاف ويكتبون له خطوطهم بمخالفة ما حكم به القاضي وقد يعبِّرون في مكاتبهم بعبارات تؤلم القاضي وتوحشه فيزداد لذلك ألمه ويكثر عنده همه وغمه.
هذا يفعله أبناء جنسه من المقلدين، وأما العلماء المجتهدون فهم يعتقدون أنه مبطل في جميع ما يأتي به لأنه من قضاة النار فلا يرفعون لما يصدر عنه من الأحكام رأسًا ولا يعتقدون أنه قاضٍ لأنه قد قام الدليل عندهم على أن القاضي (١) لا يكون إلا مجتهدًا وأن المقلد وإن بلغ في الورع والعفاف والتقوى إلى مبالغ الأولياء فهو عندهم بنفس استمراره على القضاء مصر على المعصية وينزلون جميع ما يصدر عنه منزلة ما يصدر عنه العامة الذين ليسوا بقضاة ولا مفتين فجميع سجلاته التي يكتب عليها اسمه ويحلل فيها الحرام ويحرم الحلال باطلة لا تعد شيئًا بل لو كانت موافقة للصواب لم تعد عندهم شيئًا لأنها صادرة من قاض حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو من أهل النار في الآخرة وممن لا يستحق اسم القضاء في الدنيا ولا يحل تنزيله منزلة القضاة المجتهدين في شيء [٦٠].
وبعد هذا كله فهذا القاضي المشؤوم يحتاج إلى مداهنة السلطان وأعوانه المقبولين لديه ويهين نفسه لهم ويخضع لهم ويتردد إلى أبوابهم ويتمرغ على عتباتهم، وإذا لم يفعل ذلك على الدوام والاستمرار ناكدوه مناكدة تجرح صدره وتوهن قدره، ومع هذا فأعوانه الذين هم مستدرون لفوائده والمقتنصون للأموال على يده وإن عظّموه وفخّموه وقاموا بقيامه وقعدوا بقعوده فهم أضّر عليه من أعدائه، لأنهم يتكالبون على أموال الناس ويتم
(١) قال الشيرازي في «المهذب» (٢٠/ ١٢٨ - التكملة الثانية للمجموع): «فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقومه عز وجل: {فاحكم بين الناس بالحق} [ص: ٢٦] والحق ما دل عليه دليل، وذلك لا يتعين في مذهب بعينه، فإن قلد عن هذا الشرط بطلت التولية، لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية».