لهم ذلك بقوة يده ولا سيما إذا كان مغفلاً غير حازم ولا متطلع للأمور فتعظم القالة على الاقضي وينسب ذنبهم إليه ويحمل جورهم عليه فتارة ينسب إلى التقصير في البحث وتارة إلى التغفيل وعدم التيقظ وتارة إلى أن ما أخذه الأعوان فله فيه منفعة تعود إليه لولا ذلك لم يطلق لهم الرشا ولا خلى بينهم وبين الناس وأيضًا أعظم من يذمه ويستحل عرضه هؤلاء الأعوان فإن كل واحد منهم يطمع في أن تكون كل الفوائد له فإذا عرضت فائدة فيها نفع لهم من قسمة تركة أو نظر مكان مشتجر فيه فالقاضي المسكين لابد أن يصيره إلى أحدهم فيوغر بذلك صدور جميعهم ويخرجون وصدورهم قد ملئت غيظًا فينطقون بذمه في المحافل ولا سيما بين أعدائه والمنافسين له وينعون عليه ما قضى فيه من الخصومات الواقعة لديه بمحضرهم ويحرفون الكلام وينسبونه إلى الغلط تارة والجهل أخزى، والتكالبُ على المال حينًا والمداهنة حينًا.
وبالجملة فإنه لا يقدر على إرضاء الجميع بل لابد لهم من ثلبه على كل حالٍ وهو لا يستغنى عنهم فيناله منهم محنٌ وبلايا.
هذا وهم أهل مودته وبطانته والمستفيدون بأمره ونهيه والمنتفعون بقضائه وما أحقهم بما كان يقوله بعض القضاة المتقدمين فإنه كان لا يسمّيهم الأمناء بل يسمّيهم الكمناء، ولا يخرج عن هذه الأوصاف إلا القليل النادر منهم فإن الزمن قد يتنفس في بعض الأحوال بمن لا يتِّصف بهذه الصفة
[٦١].
فهذا حال القاضي المقلد في دنياه وأما حاله في أخراه فقد عرفت أنه أحد القاضيين اللذين في النار ولا مخرج له عن ذلك بحال من الأحوال كما سبق تحقيقه وتقريره فهو في الدنيا مع ما ذكرناه سابقًا من القلاقل والزلازل في نعمه باعتبار ما يخافه من الآخرة من أحكامه في دماء العباد وأموالهم بلا برهان ولا قرآن ولا سنةٍ بل بمجرد جهل وتقليدٍ وعدم بصيرة في جميع ما يأتي ويذر ويصدر ويورد مع ورود القرآن الصحيح الصريح بالنهي عن العمل بما ليس بعلم كقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به