للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العمل بالعلم (١)، وأن العمل بالظن لا يجوز إلا بدليل يدل عليه، فإن لم يوجد الدليل الذي يدل عليه كان العمل به غير جائز. الوقوف عند العلم هو الواجب، وهذا مالا يظن بأحد إنكاره، ولا مدافعته.

فإذا تقرر [هذا] (٢) فالقاضي أمره الله -سبحانه- في محكم كتابه أن يحكم بين عباده بالحق، والعدل، والقسط. فلو فرضنا عدم ورود ما يدل على جواز الحكم بشيء مما يفيد الظن؛ لكان الواجب عليه أن لا يقضي إلا بالعلم الحاصل له (٣) بالأسباب، المفيدة


(١) ما المقصود بعلم القاضي؟
هو علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها.
(٢) زيادة يستلزمها السياق.
(٣) العلم الحاصل للقاضي له حالتان:
الحالة الأولى: علم القاضي الذي حصل عليه في مجلس القضاء، إذا حصل القاضي على علمه بوقائع الدعوى وأسباب ثبوتها في مجلس القضاء، كما أقر المدعي عليه بالدعوى، أو نكل عن اليمين بعد أن وجهها إليه القاضي، فإن القاضي يحكم بموجب علمه بوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها، ولا يشترط أن يشارك القاضي في علمه وسماعه لوقائع الدعوى ودلائل ثبوتها في مجلس القضاء شاهدان أو أكثر، هذا ما نص عليه الإمام أحمد وهو ما قال به الشافعية أيضًا محتجين بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كما في الحديث: «فإن اعترفت فارجمها» ولم يفيده بأن يكون اعترافها - أي بالزنا- بحضور الناس أو بحضور شاهدين أو أكثر.
قال ابن قدامة في «المغني» (١٤/ ٣٣): ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة والإقرار في مجلس حكمه، إذا سمعه معه شاهدان، فإن لم يسمعه معه أحدٌ، أو سمعه شاهد، فنص أحمد على أنه يحكم به، وقال القاضي: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، لأنه حكم بعلمه.
وانظر: «فتح الباري»
(٣/ ١٣٩). الحالة الثانية: هي علم القاضي المتحصل عنده خارج مجلس القضاء كما لو سمع القاضي شخصًا يطلق أمرأته ثلاثًا خارج مجلس القضاء، أو رأى القضاء شخصًا أتلف مال شخص خارج مجلس القضاء فهل يجوز أن يحكم بما علمه؟؟
قد اختلف أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه، وفي ذلك أقوال منها:
١ - القول الأول: أصحابه وهم الشافعية يفرقون بين حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى فإذا كانت الدعوى تتعلق بحقوق الآدميين فعند هؤلاء قولان: أ- لا يجوز أن يحكم القاضي بعلمه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحضرمي: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» أخرجه البخاري رقم (٢٦٦٩) و (٢٦٧٠) ومسلم رقم (٢٢٠/ ١٣٨) من حديث الأشعث بن قيس.
لأنه لو جاز له الحكم بعلمه لكان علمه كشهادة اثنين ومن ثم ينعقد النكاح به وحده، ولا قائل به، ولأن الحكم بعلمه يدعو إلى التهمة، وقد يستغله قضاة السوء فيحكمون على البريء.
وانظر تعليق الشوكاني على هذا القول في «نيل الاوطار» (٥/ ٥٧٦) فقد قال: ومن جملة ما استدل به المانعون، حديث: «شاهداك أو يمينه»، وفي لفظ: «وليس لك إلا ذلك» من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه، وأمَّا قوله: «وليس لك إلا ذلك» فلم يقله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد علم بالمحق منهما من المبطل، حتى يكون دليلًا على عدم حكم الحاكم بعلمه، بل المراد: أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرًا حيث لم يكن للمدعي برهان.
والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابًا للحكم، كالبينة، واليمين، ونحوهما أمورًا تعبدنا الله بها، لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا: الوقوف عندها، والتقيد بها، وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنًا ما كان، وإن كانت أسباباً يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر، وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظنَّ، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ... ».
ب- وهو القول الأظهر عند الشافعية وهو اختيار المزني أن القاضي يقضي بعلمه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما روي عنه: «لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو سمعه». ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود، وهو غير متيقن من صدقهم وضبطهم فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه ورآه وهو على علم به أولى بالجواز.
- أما إذا كانت الدعوى تتعل بحقوق الله تعالى فعند الشافعية قولان أيضًا:
والذي عليه أكثر الشافعية وهو القول الأظهر أنه لا يجوز للقاضي أن يحمكم بعلمه لقول أبي بكر رضي الله عنه: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده، أي لم أعاقبه بعقوبة الحد، حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات.
القول الثاني: وظاهر مذهب الحنابلة أن القاضي لا يقضي بعلمه في حدّ ولا غيره وسواء ما علمه قبل توليه القضاء أو بعده، والحجة لظاهر مذهب الحنابلة قول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمعه» - تقدم تخريجه- فدل على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قضية الحضرمي والكندي: «شاهداك ويمينه، ليس لك منه إلا ذلك» -وقد تقدم-.
ومعنى الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للمدعي: قدّم شاهداك لتثبت دعواك، فإن لم يكن عندك شاهدان فلك تحليف خصمك اليمين.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تدعى عنده رجلان فقال أحدهما: أنت شاهدي. فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. واحتجوا أيضًا بأن القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته كما قد يؤدي إلى الحكم بما يشتهي.
وردوا على من أجاز للقاضي القضاء بعلمه محتجًا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». بأن هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتيا وليس حكما بدليل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفتى في حق أبي سفيان بدون حضوره ولو كان حكمًا عليه لم يحكم عليه في غيبته.
وقالوا أيضًا أن الاحتجاج بشهادة الشهود مع عدم التيقن بصدقهم يجعل الحك بعدلم القاضي أولى لأنه مبني على اليقين. هذا الاحتجاج غير مقبول عند الحنابلة ويردونه بقولهم أن الحكم بشهادة الشهود العدول لا يفضي إلى التهمة بخلاف حكم القاضي بعلمه.
وأما جواز حكم أهل العلم بعلمهم في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الأحاديث فهذا إنما جاز ليقطع التسلسل لأنه إذا لم يعملوا بعلمهم يلزم من ذلك التسلسل لأن كل مزك يحتاج إلى من يزيكيه.
القول الثالث: قالت الحنفية: يحكم القاضي بعلمه في حقوق العباد إذا استفاد هذا العلم في أثناء ولايته القضاء، أما في الحدود الخالصة لله تعالى مثل حد الزنا وشرب الخمر فلا يقضي بعلمه استحسانًا، إلا في السرقة فيقضي بالمال دون قطع يد السارق، وفي القصاص وحد القذف يحكم القاضي بعلمه.
أما إذا علم القاضي بواقعة قبل تولية القضاء ثم عرضت عليه الواقعة بعد تولية القضاء، فعلى قول أبي حنيفة- رحمه الله- لا يقضي بعلمه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يقضي بعلمه، ولو علم بحادثة في بلد ليس هو قاضٍ فيه ثم رجع إلى بلده الذي هو قاضي فيه ثم رفعت إليه تلك الحادثة، وأراد أن يقضي بعلمه فهو على الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه.
قال ابن عابدين: وأصل المذهب الجواز بعمل القاضي بعلمه، والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة. وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم: الفتوى على عدم العمل بعلم القاضي في زماننا.
القول الرابع: ذهب الإمام مالك وأكثر أصحابه إلى أن القاضي لا يقضي بعلمه في أي مدعي به سواء علمه قبل توليه القضاء أو بعده.
وحجة المالكية قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنا بشر مثلكم وأنكم تختصمون إلي .. » - وقد تقدم - فدل ذلك على أن القضاء يكون - كما قال القرافي - بحسب المسموع لا بحسب المعلوم.
واحتجوا أيضًا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك». فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم.
واحتجوا أيضًا بأن القاضي إذا قتل أخاه بحجة علمه بأنه قائل: «كالقتل العمد لا يرث منه شيئًا للتهمة في الميراث فنقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة.