للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

و [لا] (١) عاقل إن كذبها مجوز.

فلما ورد الشرع بأن هذه الأمور التي لا تفيد إلا مجرد الظن يصح أن تكون أسبابًا لحكم الحاكم سواءًا: كانت مخصصة لعموم تلك الأدلة القاضية بعدم جواز العمل بالظن، فجاز للقاضي أن يقضي على أحد الخصمين بمجرد الظن؛ لوجود السبب الشرعي الذي ورد عن الشارع، وكان حكمه بهذه الامور الظنية معدودًا من الحق، والعدل، والقسط الذي امره الله أن يحكم به، ولولا ورود الأدلة الدالة على أنه يجوز الحكم بها لما جاز للقاضي أن يقضي بشيء منها. بل كان الواجب عليه أن يقضي بعلمه الذي أمره الله بأن يتبعه، ونهاه عن اتباع غيره من الظن وما دونه، لأن كل ظن قد يتخلف.

وقد أرشد الشارع إلى هذا إرشادًا لا يخفى على عارف. فقال -فيما صح عنه-: «إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار» (٢).

فانظر إلى هذا الكلام من صاحب الشريعة - عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام؛ فإنه أرشد المتخاصمين إلى أنه إنما يقضي بأشياء مسموعة لا معلومة (٣)، وأنها قد تتخلف، وأنه لا يحل للمحكوم له [٢ب] أن يجعل الحكم بتلك الأسباب المسموعة لا المعلومة موجبًا لتحليل ما حرمه الله عليه من مال أخيه؛ إذا كان يعلم أن ذلك المستند المسموع ليس بمطابق للواقع. فإن الله - سبحانه- إنما جعل ذلك المستند المسموع سببًا لجواز الحكم للقاضي، ولم يجعله سببًا لتحليل المحكوم به، إذا كان ذلك السبب غير مطابق للواقع.

ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذنه؛ فإنما أقطع له


(١) زيادة يستلزمها السياق.
(٢) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(٣) انظر: «المغني» (١٤/ ٣٢)، «فتح الباري» (١٣/ ١٣٩).