(٢) انظر: الأقوال في بداية الرسالة. (٣) عدم جواز حكم القاضي بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء هو القول الراجح لأسباب منها: ١ - الأحاديث التي أحتج بها المانعون أقوى في الدلالة لقولهم من الأحاديث التي أحتج بها المجيزون لقولهم - تقدم ذكرها-. انظر: «فتح الباري» (١٣/ ١٣٩). ٢ - الآثار الكثيرة المروية عن الصحابة والدالة على منع الحاكم من الحكم بعلمه، والصحابة أعلم من غيرهم بمقاصد الشريعة والمعاني المرادة بأحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقد ثبت عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس المنع من ذلك ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف. وقد ذكرنا الخبر المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قال: لو وجدت رجلًا على حدِّ حتى تقوم البينة عندي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلًا يقتل أو يسرق أو يزني؟ قال: أرى شهادة رجل من المسلمين. قال عمر: أصبت. وعن علي رضي الله عنه مثله، وهذا كله من فقه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وأحكامه وحكمته. ومن حكمته أن التهمة مؤثرة في الأحكام وهذا هو الدليل الآخر الذي يرجح ما رجّحناه ونذكره فيما يلي. ٣ - اعتبار التهمة، فالتهمة ينظر إليها في الشرع ويقام لها وزن واعتبار وتؤثر في ترتيب الأحكام، ولهذا فهي تؤثر في الشهادات والأقضية والأقارير، وفي طلاق المريض، ومن هنا لم تقبل بعض الشهادات مع أن أصحابها عدول لا يقدح في عدالتهم سوى تهمة التأثير بالقرابة أو العداوة بين الشاهد والمشهود. وكذلك لا يقضي القاضي إلى من لا تقبل شهادته له للتهمة، أي خوفًا من إنحيازه في الحكم إلى المفضي له لقرابة بينهما ونحو ذلك، كما لا يقبل حكم القاضي نفسه للتهمة، ولا يصح إقرار المريض مرض الموت للتهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها للتهمة. ولقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو سيد الحكام، يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم ولا يحكم بينهم بعلمه مع براءته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الله ملائكته وعباده من كل تهمة لئلا يقول الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. ٤ - منع القاضي من الحكم بعلمه، يقطع الطريق على حكام السوء ويمنعهم من الحكم على البريء المستور لعداوة بينهم وبينه أو تنفيذًا لأهوائهم أو طاعة لولي الأمر الظالم فلا يستطيعوا أن يحكموا على بريء بحجة علمهم وما أحسن قول الشافعي- رحمه الله-: لولا قضاة السوء لقلنا أن للحاكم أن يحكم بعلمه». وقال ابن عابدين: «وأصل المذهب - الحنفي- الجواز بعمل القاضي بعمله والفتوى على عدمه في زماننا لفساد القضاة». ٥ - ما يقدمه الخصوم لإثبات الدعوى أو دفعها يمكن مناقشته والنظر فيه وتقويمه قبل أن يصدر الحكم، أما إذا جوزنا للقاضي الحكم بعلمه فإن معنى ذلك أنه يصدر الحكم بناء على هذا العمل دون أن يتمكن الخصوم من مناقشة ما استند إليه القاضي أو الطعن فيه وبيان ما يرد عليه أو ينقضه مع احتمال ذلك كله، لأن علم القاضي الذي يحصل عليه خارج مجلس القضاء معرض للخطأ لأنه غير معصوم وما يعلمه عن طريق السمع أو الرؤية قد يتطرق إليه الخطأ إحاطته بالقرائن والظروف والأحوال التي صدر فيها المسموع أو المرئي، أو لعدم انتباه القاضي انتباهاً كافيًا لم سمع أو لما رأى مما قد يفوت عليه بعض ما سمع أو ما رأى فيكون علمه ناقصا وبالتالي حكمه غير صحيح، وهذا كله إذا نزهنا القاضي عن الهوى والابتعاد عن مظان الاتهام، ففي تجويز الحكم للقاضي بعلمه مع هذه الاحتمالات الواردة ظلم للمحكوم عليه وإجحاف بحقه في الدفاع عن نفسه وتفويت لحقه في مناقشة ما استدل به القاضي من الحكم بعلمه المتحصل عنده خارج مجلس القضاء. انظر: «الطرق الحكمية» لابن القيم (ص١٧٩ - ١٨٠)، «فتح الباري» (٣/ ١٣٩ - ١٦٠)، «الفروق» للقرافي (٤/ ٤٤).