للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يحكم بظنه في شيء من الأشياء إلا في تلك الأمور التي ورد الدليل بتخصيصها من عموم المنع من اتباع الظن؛ لأن الشارع قد جوز له الحكم بها، وإن كان يجوز تخلفها.

وبهذا يظهر لك أن حكم القاضي بعلمه هو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من اتباع العلم وهو الحكم الذي يطابق ما أمره الله به من الحكم بالحق والعدل والقسط، وهو الحكم الذي هو الأصل الأصيل، المطابق لما ورد في التنزيل، وهو الحكم الذي يطابق الواقع، ويطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس.

فمن قال من أهل العلم: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، بل يحكم بتلك الأسباب الظنية من الشهادة والإقرار واليمين ويقتصر عليها، ولا يجوز له الحكم بالعلم. فما أظنه تدبر هذه الآيات القرآنية الموجبة للعمل بالعلم، والمانعة من العمل بما دونه. ولا أظنه تأمل ما فيها من العموم المتناول لكل شيء من الأشياء (١) ولا أحسبه أمعن النظر فيما اشتملت


(١) يتضح من سياق «هذه الرسالة» قول الشوكاني أن الأمر بالعلم وإطراح الظن الذي تضمنته الآيات السابقة حكم عام لا مخصص له يمكن أن يستثنى من أحكامها القضاء أو علم القاضي، ومعنى ذلك أن الشارح حينما قرر للقاضي أن يحكم بالإقرار والشهادة واليمين، وجميعها لا توصل لأكثر من الظن الراجح، ولا تفيد اليقين بأي حال لم يكن ذلك تخصيصًا لسابق أمره باتباع العلم على العموم، وأن الأحاديث النبوية في هذا الباب - وهي كثيرة- لا تفيد التخصيص، ولكن الرسالة لا تقل لنا شيئًا عن الأثر المنسوب إلى أبي بكر الصديق القائل: «لو رأيت رجلًا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عليه» وهو أثر واضح الدلالة في أن أبا بكر لم يعتمد على علمه، وإنما يجنح إلى الدليل وإطراح علم القاضي وكان عمر بن الخطاب على نفس المنهج فقد روى أنه تداعى عنده خصمان فقال أحدهما: أنت شاهدي، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد».
- وهذه المرويات لا ينازع فيها الشوكاني على مدلول واحد هو إن طريق القضاء فيالحكم، الدليل وإن علم القاضي لا يصح سندًا للحكم بل إن ما روي عن عمر بالغ الدلالة في التمييز بين منصب القضاء ومنصب الشهادة، وأن القاضي لا يملك أن يشهد بما رأى ثم يحكم بما شهد، فهذا خلط مذموم وأقل ذميمته أنه يضر بالعدالة.
ولكن الشوكاني - في هذه الرسالة- لا يناقش شيئًا من ذلك وإنَّما يؤكد بتكرار أن من يمنع على القاضي أن يحكم بعلمه لم يدرك ولم يتدبر أسرار الآيات التي استشهد بها ولم يفقه مدلولاتها الواضحة وهذا المنهج أغناه عن عناء الجدل مع هذه الآثار، ناهيك عن الآثار والنصوص التي استندت إليها المذاهب والتي تخالف الشوكاني في مذهبه.