للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومنهم (١) من قال: الآلهة ثلاثة: فصالح، وطالح، وعدل بينهما.

ومنهم (٢) من قال: الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو من جوهره ونوره، وأن الابن اتخذ بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا وهو المسيح. إلى ذلك من الاختلافات المنسوب كل واحد منها إلى طائفة منهم. ثم كان يحدث في كل عصر قول يقوله بعض أساقفتهم أو بطاركتهم، فيشبع ذلك فيهم، ثم يجتمعون لأجله من جميع الأمكنة التي بها النصارى، فيبعثون من فيهم من الأساقفة والبطاركة فعند الاجتماع يختلفون ويضلل بعضهم بعضًا. وقل أن يجتمعوا مجمعًا إلا ويتفرقون على خلاف بينهم من دون اتفاق.

وإذا نظر من يفهم إلى أقوالهم المتحددة ومذاهبهم المختلفة وجد ذلك مستندًا إلى قضايا عقلية تختلف فيها العقول غاية الاختلاف، ولم يكن ذلك [٢ ب] مستندًا إلى ما في الإنجيل، ولا إلى ما قاله المسيح- عليه السلام-، فما زالوا في تباين واختلاف يقتل بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا. وكان من يتقرب منهم إلى ملوك النصارى يحسن له ما يذهب إليه فيحل بمن خالفه السيف، وينزل به الهلاك. ولا يخلو من ذلك عصر من العصور منذ وقع الخلاف بعد انقراض عصر الحواريين، وهكذا ما زالوا بعد ظهور الملة الإسلامية- كثر الله عدادها، ونصرها على من خالفها- وجملة مذاهبهم التي استقرت خمسة:

مذهب الملكانية (٣) وهم يقولون: إن معبودهم ثلاثة أقانيم، وهي إقنيم الأب،


(١) ذكره أبو زهرة في محاضرات في النصرانية (ص ١٥٢).
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) قال الشهرستاني في «الملل والنحل» (١/ ٢٦٦): هم أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها.
وقيل أن ذلك خطأ ... وإنما هي الملكية نسبة إلى المذهب الذي اعتنقه ملوك الرومان النصارى وهو: أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين في أقنوم واحد.
وقد مر هذا المذهب بعدة مراحل، حيث بدأ إقراره في مجمع نيقية سنة ٣٢٥ م بتأييد الملك قسطنطين لمذهب تعدد الآلهة واعتبار المسيح ابنًا وإلهًا مستقلاً، ثم في مجمع القسطنطينية الأول سنة ٣٨١ م، تحددت هوية الثالوث النصراني بالأب والابن في المسيح طبيعتين- خلافًا لليعقوبية- وحيث إن الذي دعا إلى هذا المجمع هو الملك (الإمبراطور) الروماني وتأييده لمذهب ازدواج الطبيعتين فقد أطلق عليه المذهب الملكي أو الملكاني.
ثم أضيف إلى هذا المذهب القول بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان في مجمع القسطنطينية الثالث سنة ٦٨٠ م خلافًا للمارونية القائلين بأن المسيح له طبيعتان ومشيئة واحدة.
وظلت الطوائف القائلة بمذهب الملكية (بالطبيعتين والمشيئتين) متفقة في آرائها إلى أن دب الخلاف بينها بشأن انبثاق روح القدس، أكان من الأب وحده؟ أم من الأب والابن معًا؟ ولأجل ذلك عقد مجمع القسطنطينية الرابع سنة ٨٦٩ م ونتج عنه انفصال الكنيسة الشرقية رئاسة ومذهبًا واسمًا عن الكنيسة الغربية (مذهب الملكية) حيث أصبحت الكنيسة الشرقية تسمى بكنيسة الروم الأرثوذكسية أو اليونانية، وأتباعها يعتقدون بأن روح القدس منبثق عن الأب وحده، وأكثرهم في الشرق باليونان وتركيا وروسيا، وغيرها، ولهم بطاركة أربعة:
١ - بطريرك القسطنطينية وهو كبيرهم.
٢ - بطريرك الإسكندرية للروم الأرثوذكس.
٣ - بطريرك أنطاكية.
٤ - بطريرك أورشليم- القدس-، كما تميزوا باعتقادهم أن الإله الأب أفضل من الإله الابن، وتحريم الدم والمنخنقة وإيجاب استخدام الخبز في العشاء الرباني وغير ذلك.
أما الكنيسة الغربية اللاتينية فتسمى بالكنيسة البطرسية- نسبة إلى بطرس رئيس الحواريين- الكاثوليكية (نسبة إلى كاثوليك وهي كلمة يونانية ومعناها العالمي أو العام، وهو اصطلاح استخدمته الكنيسة في القرن الثاني الميلادي) ويرأسها البابا بالفاتيكان في روما، ويعتقد أتباعها أن الروح القدس منبثق عن الأب معًا، وبالمساواة الكاملة بين الأب والابن، وإباحة الدم والمنخنقة واستخدام الفطير بدلاً من الخبز في العشاء الرباني، وتتميز الكنيسة الكاثوليكية بعدة سمات بارزة منها: استعمال اللغة اللاتينية، والبخور، واتخاذ الأيقونات والمصورات البارزة التقويم الخاص وغير ذلك، وينتشر أتباعها في معظم بلاد العالم لما لها من النفوذ والمال.
ثم حدث انشقاق آخر بداخل الكنيسة الكاثوليكية عندما ظهر دعاة الإصلاح الكنسي في أوائل القرن (١٦ م) بتخليص الكنيسة من مظاهر الفساد، ومن أبز هؤلاء الدعاة: مارتن لوثر الألماني سنة ١٥٤٦ م، وزونجلي السويسري سنة ١٥٣١ م، وكلفن الفرنسي سنة ١٥٦٤ م، الذين احتجوا على فساد الكنيسة، فسمي مذهبهم (بالبروتستانتية) أي المحتجين، وقد سموا أنفسهم (بالإنجليين) وعلى كنيستهم (الكنيسة الإنجيلية) لدعواهم أنهم يتبعون الإنجيل ويفهمونه بأنفسهم دون الحاجة إلى البابوات، ومن أبرز مبادئهم:
إبطال الرئاسة في الدين، وصكوك الغفران والرهبنة، وتحريم التماثيل والصور في الكنيسة، وأن الخبز والخمر في العشاء الربان لا يتحولان إلى لحم المسيح ودمه، وإنما هو وسيلة رمزية وينتشر أتباعهم في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا الشمالية وغيرها.
وعندما ظهرت الحاجة إلى توحيد صف النصارى وجمع كلمتهم عقد في سنة ١٥٦٣ م، مجمع (مؤتمر) عالمي في الفاتيكان بدعوة من البابا يوحنا الثالث والعشرين لأجل تحقيق الوحدة الدينية بين المذاهب النصرانية المختلفة , فتساهلت بذلك الكنائس والمذاهب النصرانية المختلفة في الاعتراف للكنيسة الكاثوليكية بالتقدم عليها في الرئاسة لا بالسلطان.
ويزعم أتباع هذا المذهب أن الآلهة ثلاثة متميزون ومنفصلون: الأب، والابن، والروح القدس، ومع ذلك فهم شيء واحد في الطبيعة والذات، ويزعمون أن الكلمة (وهي أقنوم العلم وهي الابن) قد اتحدت بجسد المسيح، وأن مريم قد ولدت الإله والإنسان وأنهما شيء واحد، وأن الموت والصلب وقع على اللاهوت والناسوت معًا، وإليهم أشار القرآن بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: ٧٣].
انظر مزيد تفصيل: «الملل والنحل» (١/ ٢٢٢ - ٢٢٤)، «النصرانية» (ص ١٣٠ - ١٣٤) الطهطاوي.