ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل، وتحقق وتدقق [١ب] في زعمها، وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت مما يوافق ما ذهبت إليه {كل حزب بما لديهم فرحون}(١)، وعند الله تلتقي الخصوم.
ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم. فكان غاية ما ظفروا به من هذه الأعلمية لطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئا للعامة.
فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنئ من ظفر بها لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن يدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت، ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها، الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته أن يكون جاهلا به، عاطلا عنه!.
ففي هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلا عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل:
أرى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولاً
وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة، فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته، أو دونه، ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه، بل يكون ذلك لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه.
فيالله العجب من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقدارا بالنسبة إليه! وهل سمع السامعون مثل هذه الغريبة، أو نقل الناقلون ما يماثلها ويشابهها؟!
وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفا، وأقلها تبعة، فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان