للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قرصة النملة إلى قضمة الأسد.

وقد كان يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله عز وجل، وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله وهما: {ولا يحيطون به علما} (١) و {ليس كمثله شيء} (٢). فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا بما يغني أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب والهضاب، الصاعدين في متوعدات هاتيك العقاب، فالكلمة منها دلت دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق، ودعاوى التحقيق فهو مشوب بشعبة من شعب الجهل، مخلوط بخلوط هي منافية للعلم، ومباينة له. فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علما، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة، وقد نفيت عن كل فرد؛ لأن هذه القضية هي في قوة لا يحيط به فرد من الأفراد علما.

فكل قول من أقوال المتكلفين صادر عن جهل، إما من كل وجه أو من بعض الوجوه، وما صدر عن جهل فهو مضاف إلى جهل، ولا سيما إذا كان في ذات الله [٥أ] وصفاته، فإن ذلك من المخاطرة في الدين ما لم يكن في غيره من المسائل، وهذا يعلمه كل ذي علم، ويعرفه كل عارف.

ولم يحط بفائدة هذه الآية، ويقف عندها، ويقتطف من ثمراتها إلا الممرون للصفات على ظاهرها، المريحون أنفسهم من التكلفات والتعسفات التأويلات والتحريفات، وهم السلف الصالح-كما عرفت- فهم الذين اعترفوا بالإحاطة، وأوقفوا أنفسهم حيث أوقفها الله، وقالوا: الله أعلم بكيفية ذاته وماهية صفاته، بل العلم كله له، وقالوا كما قال من


(١) [طه: ١١٠]
(٢) [الشورى: ١١]