للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأعظم ابتداعا، وأكثر إثما على من بلغه ذلك إن رآه أن ينزل بهم صودا من العنوفة، وطرقا من التأديب الشرعي. وأما سأل عنه السائل - أرشده الله - عن قيام جماعة من الناس يصلون العصر جماعة بعد الفراغ من صلاة الجمعة في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة، فهذا فعل للصلاة قبل دخول وقتها. والمقرر على العامة بدعائهم إلى القيام إلى الصلاة في ذلك الوقت يستحق العقوبة البالغة، وهذا الأمر منكر مجمع عليه بين جميع المسلمين، وحرام لا يخالف فيه أحد من هذه الأوجه، فإنه إنما سوغ الجمع تقديما للمسافر (١) على ما فيه من ضعف أدلته واحتمالها. والحق تحقيق الصواب الذي صح في

صيغ المسافر بموضع التأخير لا جمع التقديم. وأما المقيم فلم يقل بذلك أحد، ولا أجازه مجيز إلا إذا كان له عذر من مرض أو نحوه، على ما في ذلك من التفاصيل التي لا يتسع المقام لبسطها وأما قيام جماعة على هذه الصفة في جامع من جوامع المسلمين بعد الفراغ من الصلاة الأولى، سواء كانت صفة أو غيرها لغير معذور بين بالأعذار الشرعية فلم يقبل به أحد. وقد جمعنا في هذا رسالة مطولة في أيام قديمة دفعنا بها قول من قال بجواز الجمع مستدلا على ذلك بجمعه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - من غير مرض، ولا سفر (٢). وأوضحنا رواة الحديث فسروه بالحمع الصوري (٣) لا بهذا الجمع الذي فهمه من لم يرسخ قدمه في علم.


(١) أخرج البخاري رقم (١١١٢) ومسلم رقم (٤٦/ ٧٠٤) وأبو عوانة (٢/ ٣٥١) والبيهقي في " السنن الكبرى " (٣/ ١٦١ - ١٦٢) وأحمد في " المسند " (٣/ ٢٤٧، ٢٦٥) والنسائي (١/ ٢٨٤رقم ٥٨٦).
عن أنس - رضي الله عنه - إذا ارتحل في سفره قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ".
الحديث فيه دليل على جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر تأخيرا ودلالة على أنه تلا يجمع بينهما تقديما ...
وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهبت الهادوية، وهو قول ابن عباس وابن عمر وجماعة من الصحابة، ويروى عن مالك، وأحمد، والشافعي إلى جواز الجمع للمسافر تقديما وتأخيرا عملا بهذا الحديث في التأخير وبما يأتي في التقديم.
عن معاذ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر معا، والمغرب والعشاء جميعا ".
وهو حديث صحيح أخرجه مسلم رقم (٥٥٣).
قال الأمير الصنعاني في " السبل " (٣/ ١١٨) إلا أن اللفظ محتمل لجمع التأخير لا غير أوله ولجمع التقديم، ولكن. . أخرجه الترمذي رقم (٥٥٣) وهو حديث صحيح.
عن معاذ قال: " كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر، وصلى الظهر والعصر جميعا ". فهو كالتفصيل لمجمل رواية مسلم. ثم قال: إذا عرفت هذا فجمع التقديم في ثبوت روايته مقال إلا رواية " المستخرج " لأبي نعيم على صحيح مسلم: إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، ثم ارتحل. وهو صحيح. أنظر " الإرواء " (٣/ ٣٣) فإنه لا مقال فيها. وقد قال ابن حزم في " المحلى " (٣/ ١٧٣) إلى أنه يجوز جمع التأخير لثبوت الرواية به لا جمع تقديم، وهو قول النخعي، ورواية عن مالك وأحمد ثم أختلف في الأفضل للمسافر هل الجمع أو التوقيت؟ ". فقالت الشافعية ترك الجمع أفضل، وقال مالك: إنه مكروه وقيل يختص بمن له عذر. قال ابن القيم في " زاد المعاد " (١/ ٤٨١) لم يكن - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع راتبا في سفره كما يفعله كثير من الناس، ولا يجمع حال نزوله أيضا، وإنما كان يجمع إذا جد به السير، وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك. وأما جمعه وهو نازل غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي وشيخنا، ولهذا خصه أبو حنيفة بعرفه، ومن تمام النسك. وأنه سبب. وقال أحمد ومالك والشافعي: إن سبب الجمع بعرفة ومزدلفة السفر، وهذا كله في الجمع في السفر.
(٢) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٥٠/ ٧٠٥) عن ابن عباس قال: " أنه جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ". قيل لابن عباس: ما أراد من ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته ".
(٣) قال القرطبي في " المفهم " (٢/ ٣٤٦ - ٣٤٧): أن هذا الجمع يمكن أن يكون المراد به بأخير الأولى إلى أن يفرغ منها في آخر وقتها، ثم بدأ بالثانية في أول وقتها، وإلى هذا يشير تأويل أبي الشعثاء في الحديث الذي. أخرجه البخاري في صحيحه رقم (١١٧٤) ومسلم عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظنه ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (٥٤٣) ومسلم رقم (٦٥) من حديث ابن عباس وفيه: " صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة ثمانيا جمعا وسبعا جمعا. أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء ". ويدل على صحة هذا التأويل. أنه قد يفي فيه الأعذار المبيحة للجمع التي هي: الخوف، والسفر والمطر وإخراج الصلاة عن وقتها المحدود لها بغير عذر لا يجوز باتفاق.