للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الطبراني (١) عنه أيا بإسناد حسن، وله عنده طريق أخرى، وأخرجه أبو داود (٢) عن بهيسة الفزارية -رضي الله عنها- وهي بمضمومة، وفتح هاء، وسين مهملة و [ .... ] (٣) عن أبيها.

وفي الباب أحاديث (٤) وجميعها قاضية بأن الكلأ مشترك بين الناس لا يحل لأحد أن يمنعه أحدا، وهذه الحدود المذكورة ليس المراد بها إلا قسمة ما ينبت في المباحات من الكلأ، واختصاص كل أحد بما ينبت في حدة، وإذا أراد صاحب الحد أن يرعى سائمته عقرت أو بعضها.

وقد نشأ عن ذلك فتنة تؤدي إلى قتل نفوس، أو سلب أموال، وقطع سبل. وقد شاهدنا من ذلك وقائع شنيعة، وهكذا إذا أراد غير صاحب الحد أن يحتش أو يحتطب فأقل الأحوال سلب بعض ثيابه، وإهانته.

والحاصل أن المحاماة عن صاحب كل حد على حدة أبلغ عن محاماة كل مالك على ملكه، فإن الأملاك لا يترتب عليها ما يترتب على هذه الحدود من الفتن، وإراقة الدماء، وسلب الأرواح، وهتك الحرم. وهكذا يقع ما خولفت فيه الشريعة المطهرة، وظن فاعله أن غيرها أصلح منها، فإنها جرت عادة الله -عز وجل- في مثل ذلك أنها تعود المصالح التي يخيل إلى فاعلها أنها مسوغة لمخالفة الشريعة مفاسد محضة، وهذا سر من أسرار الشريعة، وليس بيد من يسوغ هذه القسمة، ورسم هذه الحدود المشئومة إلا تخيل أن ذلك نوع من أنواع المناسب المذكور في الأصول، يسميه من لم يكن له درية بذلك العلم مصالح مرسلة (٥)، وهو عند من يعرف علم الأصول من المناسب


(١) في "المعجم الصغير" (٢/ ٧ - ٨ رقم ٦٨١ - الروض الداني).
(٢) في "السنن" رقم (٣٤٧٦).
(٣) غير واضحة في المخطوط.
(٤) ستأتي في هذه الرسالة والتي بعدها.
(٥) المصلحة المرسلة: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها.
وقيل: هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم.
تقسم المصالح من حيث اعتبار الشارع إلى ثلاثة أقسام:
١ - المصالح المعتبرة: وهي ما اعتبرها الشارع بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها كحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال، فقد شرع الشارع الجهاد وقتال المرتد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد الشرب لحفظ العقل، وحد الزنى والقذف لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال. وعلى أساس هذه المصالح المعتبرة وربطها بعللها وجودا وعدما جاء دليل القياس فكل واقعة لم ينص الشارع على حكمها، في علة هذا الحكم. فإنها تأخذ نفس الحكم المنصوص عليه.
٢ - المصالح الملغاة: وهي المصالح التي ليس لها شاهد اعتبار من الشرع بل شهد الشرع بردها وجعلها ملغاة.
وهذا النوع من المصالح مردود، لا سبيل إلى قبوله، ولا خلاف في إهماله بين المسلمين فإذا نص الشارع على حكم في واقعة، لمصلحة استأثر بعلمها، وبدا لبعض الناس حكم فيها، مغاير لحكم الشارع، لمصلحة توهموها، ولأمر ظاهر - تخيلوا أن ربط الحكم به يحقق نفعا أو يدفع ضررا - فإن هذا الحكم مرفوض لأن هذه المصلحة التي توهموها مصلحة ملغاة من الشارع ولا يصح التشريع بناء عليها لأنها معارضة لمقاصد الشارع.
ومن أمثلة هذا النوع: التسوية بين الذكور والإناث في الإرث: فهي مصلحة متوهمة: وهي ملغاة، بدليل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء: ١١].
٣ - المصالح المرسلة: وهي المصالح التي لم ينص الشارع على إلغائها ولا اعتبارها
وهذه هي المصالح المرسلة عند الأصوليين، فهي مصلحة: لأنها تجلب نفعا وتدفع ضرا ...
وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه
فهي إذا تكون من الوقائع المسكوت عنها وليس لها نظير منصوص على حكمه حتى نقيسها عليه وفيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة، أو يدفع مفسدة ...
مثل المصلحة التي اقتضت جمع القرآن.
ضوابط المصلحة المرسلة:
١ - إندراجها في مقاصد الشارع.
٢ - عدم معارتها لكتاب الله الكريم.
٣ - عدم معارتها لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ - عدم معارتها للقياس الصحيح.
٥ - عدم تقويتها مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
مجال العمل بالمصالح المرسلة:
١ - لم يعمل -القائلون بحجية المصالح المرسلة - بها في جميع الأحوال ولكن اقتصر عملهم بها في نطاق المعاملات وذلك لأن المصلحة يمكن الوقوف عليها في المعاملات إذ هي معقولة المعنى.
٢ - لا خلاف بين العلماء في أن العبادات لا يجري فيها العمل بالمصالح المرسلة، لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد والرأي، والزيادة عليها ابتداع في الدين والابتداع مذموم.
٣ - انظر: "إرشاد الفحول" (ص ٧٩٠ - ٧٩٤)، "تيسير التحرير" (٤/ ١٧١)، "الكوكب المنير" (٤/ ٤٣٢ - ٤٣٦).