للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتلك مسألةٌ أخرى، وإن شاركت مسألة السؤال في بعض الوجوه. وحينئذ لا وجه للاستدلال على المحاجر بحديث: "من سبقً ... إلخ"؛ لأنه لم يسبق إليها أحدٌ، وإنما اجتمعَ رأيُ أهل القرية على أن يجعلُوها حِمَى، وايضًا لو فرضنا أن كلامَ ابن حابس في الحدود لم يصحَّ الاستدلالُ على جوازها بحديث: "من سبق ... إلخ" لوجوه:

الأول: أن هذا الحديث حجة على الشرفي ـ عافاه الله ـ لا له، لأنَّا إنما منعنا الحدود لأجل أن يكون الناس [٢ب] مشتركين في الكلأ ونحوِه، ومعنى الاشتراك أن يكون للجميع، ومن سبق منهم إلى شيء كان أولى به، فالحديث حجةٌ لمن قال بعدم جواز الحدود؛ إذ هي بعد ضربها مانعة عن معنى الحديث، وهو أن من سبق إلى شيء فهو أولى به، بل ليس لكل أحد إلاَّ ما في حدِّه، سواءٌ كان سابقًا أو مسبوقًا، فإن قال الشرفي ـ كثر الله فوائده ـ: أن المراد بالسبق هو ضرب الحدود فليس ذلك بصحيح، إذ من المعلوم أنَّ الكلأ الذي كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدو، ثم سبق إليه كلامُنا فيه يحدُثُ في السنة مراتٍ، فإذا فرضنا أنه حدث كلأ بعد ضرب الحدود، ثم سبق إليه غيرُ صاحب الحدِّ فهل يقول الشرفي بأنه أولى به أم لا؟ إن قال بالأول فهو ما نريده من عدم ابتداع الحدود المفْضيةِ إلى منع ما أباحه الله. وإن قال بالثاني، قلنا له هذا خلافُ الحديث الذي جعلتَه دليلا لك، وإن قال إنَّ ضارِبَ الحدود سابقٌ إلى ما لم يَسْبِق إليه أحدٌ فنقول: هذا باطلٌ، فإنه لم يسبق إلى تحجُّر الكلأ، بل وضع أحجار على ظهر الأرض، فكيف يستحقُّ من الكلأ ما يحدث بعدَ ذلك مرةً بعد مرةٍ! وهل هذا إلا مخالفٌ لحديث السَّبْقِ، وللأحاديث الدالة على اشتراك الناس فيه، المذكورة في تلك الرسالة.

الوجه الثاني: أنْ لو سلَّمنا تنزلاً أن السبقَ صادقٌ على صورة وضع الحدودِ، فنقول: لا يخفى على عارفٍ أن حديثَ السبق أعم من حديث: "الناس شركاء في ثلاث"، وبيانُه أنَّ قوله: "من سبق إلى ما لم يُسبق إليه" فيه صيغتان من صيغ العموم (١).


(١) انظر "إرشاد الفحول" (ص٤٠٢)، "تيسير التحرير" (١/ ١٩٧)، كتاب "حروف المعاني" للزجاج (ص٥٥).