للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المانع على فَرَض أنه يترجَّح جانبُ عدمِه على جانب وجودِه، فكيف إذا كان عدمُهُ راجحًا كما نحن فيه! فإنّه لا شك أن الأصل عدمُ المانعِ، لأنّ الظاهر أنّ الرجل المعلوم إسلامُهُ ولا سيَّما إذا كان من أهل التمييز والتقوى لا يتقرَّبُ بأمرٍ في الظاهر، وثمَّ مانعٌ يبطلُ عنه ذلك التقرُّبَ، ويبقى الكلامُ هاهنا في صورة، وهي حيثُ لم تكنِ المقتضى معلومًا وجودُهُ ولا عدمُهُ.

ولا شكَّ أن المانع إذا كان معلومًا أو مظنونًا مقدَّمٌ عليه، وإنما الإشكالُ فيما إذا كان المانعُ غَيْرَ معلوم وجودُهُ ولا عدَمُهُ، فهل يُجْعَلُ الأصلُ وجودَ المقتضي فيجبُ القضاءُ بالصحةِ، أو الأصلُ عدَمُهُ فيجبُ القضاءُ بعدمِها، أو يكون ذلك محلَّ تردُّدٍ؟ ويمكنُ أنْ يُقَالَ: الأصلُ العدمُ، لأنَّه السابقُ على الوجود، فإذا لم يَقُمْ دليلٌ يدلُّ على أن المقتضي موجودٌ فالواجبُ استصحابُ ذلك المتيقَّنِ، ولا يُتَنَقَّلُ عنه إلاَّ بناقلٍ، ولكن هاهنا أمرٌ آخَرُ يوجبُ المصيرَ إلى أنَّ المقتضي في تلك الحالِ موجودٌ، وهو الظاهر المرجَّحُ على الأصل عند التعارضُ، فإنه لا ريبَ أنَّ المسلمَ إذا فعلَ فِعْلاً من أفعال العباداتِ والقُرَبِ كان الظاهرُ أنَّه لم يفعل ذلك عَبَثًا بل فعلَه لمقتضٍ هو إرادةُ التقرُّب إلى الله تعالى، لأن الإسلام بمجرَّده باعثٌ على ذلك فضلاً عن الإيمانِ والعِرفَانِ، ولا ينبغي أن يُظَنَّ بمسلم من المسلمينَ أنَّه يُلْبَسُ ببعض القُرَبِ المقربة إلى الله تعالى غَيْرَ مستحضرٍ في تلك الحالِ لماهية ما تقرَّبَ به.

فإن قلتَ: قد قامتِ الأدلةُ الصحيحةُ الصريحةُ القاضيةُ [٢ب] بمشروعيته وقد ذكر السيدُ العلامةُ في جوابه على هذا السؤالِ شطرًا منها، وهو مذهب الجماهير من أهل العلم، حتى قال الترمذي (١): لا يَعْلَمُ بينَ الصحابةِ والمتقدَّمينَ من أهل العلم خلافًا في جواز وقفِ الأرضينَ، وجاء عن شُرَيْحٍ (٢) أنه أنكر الوقفَ، وقد تأوَّل ذلك جماعةٌ من


(١) في "السنن" (٣/ ٦٦٠).
(٢) ذكره ابن قدامة في "المغني" (٥/ ١٨٥): قال: ولم ير شريح الوقف، وقال لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة.